آخر المواضيع

مرحباً بكم على موقع ((لا صوفية في الإسلام)) تجدون في هذا الموقع : مقالات، صوتيات، كتب، مرئيات، وغيرها من الفوائد والفرائد والكنوز. نتمنى لكم متابعة ممتعة ومفيدة..

الأحد، 8 ماي 2011

لا يجزم لأحد أنّه من أهل الجنّة إلا بنص من الشارع




الإمام المجدّد الرئيس
عبد الحميد بن باديس




قال ابن شهاب: أخبرني خارجة بن زيد بن ثابت أنّ أم العلاء –امرأة من الأنصار- بايعت النبي صلى الله عليه وسلّم، أخبرَتهُ أنّه اقتسَمَ المهاجرون قرعةً فطار لنا عثمان ابن مظعون فأنزلناه في أبياتنا فوُجع وَجعه الذي توفيّ فيه، فلمّا توفيّ وغسّل وكفّن في أثوابه دخل رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقلت: رحمة الله عليك أبا السائب فشهادتي عليك لقد أكرَمَكَ الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلّم: وما يدريك أنّ الله أكرمه؟
فقلت: بأبي أنت يا رسول الله فمن يكرمه الله؟
فقال عليه السلام: أمّا هو فقد جاءه اليقين، والله إنّي لأرجوا له الخير، والله ما أدري وأنا رسول الله ما يُفعل بي.
قالت: فوالله لا أزكي أحداً بعدهُ أبداً.
رواه البخاري في صحيحه من طرق في عدّة أبواب।

المتن:
ثبت عند البخاري أيضا ((ما أدري ما يُفعل بي ولا بكم)).
وثبت عنده أيضا ((ما أدري ما يُفعل به)).

ترجمة شخصي الحديث:
شخصا الحديث هما اللذان كانا سببا في وروده وهما أمّ العلاء المزكية وعثمان المُزكّى.
فأمّا أمّ العلاء فهي بنت الحارث ابن ثابت الأنصاري الخزرجية وهي أمّ خارجة بن زيد الراوي عنها، وأمّا عثمان بن مظعون فهو أبو السائب بن حبيب بن وهب القرشي الجمحي من السابقين، أسلم بعد ثلاثة عشر رجُلاً، هاجر الهجرتين، وشهد بدراً، وهو أوّل من مات من المهاجرين بالمدينة، وأوّل من دفن بالبقيع منهم.

الشرح:
لمّا جاء المهاجرون إلى المدينة ولا أهل لهم ولا مال، نزلوا على الأنصار من الأوس والخزرج فاقتسمهم الأنصار بالقرعة فطار في قسمة بيت زيد بن ثابت عثمان بن مظعون فأنزلوه في أبياتهم فمرض مرضه الذي توفي فيه فلمّا توفيّ وغسّل وكفّن في أثوابه دخل رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقامت أمّ العلاء في في حضرة النبي صلى الله عليه وسلّم تثني على عثمان فدعت له بالرحمة وشهدت له جازمة أنّ الله أكرمه أي بالجنّة لأنّها دار كرامة الله لعباده، فأنكر عليها النبي صلى الله عليه وسلّم وقال لها وما يدريك أنّ الله أكرمه؟
أي: من أين علمت ذلك؟
ففدته بأبيها تأدبا معه صلى الله عليه وسلّم في الخطاب وقالت فمن يكرمه الله؟
أي: إذا لم يكرم عثمان مع سابقيته وهجرته وبدريته فمن يكرم؟!
فبيّن لها النبي صلى الله عليه وسلّم ما يجوز أن يقطع به وما لا يجوز أن يتعدى حد الظن، فقال لها: أمّا هو فقد أتاه اليقين يعني الموت وهذا مقطوع به، وإنّي لأرجو له الخير، وهذا الذي لا يجاوز حدّ الظن، ثمّ بيّن لها أنّ الغيب لا يعلمه إلا الله وأنّ البشر لا يعلمون الغيب حتى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فإنّهم لا يعلمون إلا ما علّمهم، فقال لها والله لا أدري وأنا رسول الله ما يفعل بي.
فاهتدت إلى ما هداها إليه النبي صلى الله عليه وسلّم وقالت والله لا أزكي أحداً بعدهُ أبداً، تعني مثل هذه التزكية التي قطعت له فيها بالكرامة.

توضيح:
ما في لفظ الحديث موافق لما في سورة الأحقاف المكية من قوله تعالى ((وما أدر يما يُفعلُ بي ولا بكم))
قال البيضاوي (1): أي في الدارين على التفصيل إذ لا علم بالغيب. يعني إلا ما علّمه الله وقد أعلمه الله أنّه مغفور له ما تقدّم وما تأخر في سورة الفتح المدنية وأعلمه بما أخبره به في الصحيح من منازله الكريمة يوم القيامة ومقامه المحمود وغيره من أنواع الخصوصية والكرامة.

الأحكام:
في الحديث:
1) اقتسام أهل القدرة أهل العجز عند الضرورة والشدّة.
2) وفيه الدخول على الميّت بعد تسجيته في أكفانه.
3) وفيه الدعاء للميت بالرحمة.
4) وفيه المنع بالقطع لأحد بالجنّة دون نص شرعي.
5) وفيه المبادرة بإنكار القول الباطل في الدين بفور سماعه.
6) وفيه مراجعة المعلّم بإبداء وجه النظر الذي وقع الخطأ فيه.
7) وفيه جواز ظن ورجاء الخير لأهله.

تفرقة:
ذكر الميت بما علم من حاله في حياته ثناء عليه جائز والقطع له بالنجاة ممنوع، فأمّا هذا الثاني فدليل منعه من الحديث المذكور، وأمّا الثاني فدليل جوازه ما رواه مسلم في صحيحه عن ابن عباس قال: ((وُضع عُمر بن الخطاب على سريره فتكنفه النّاس يدعون ويثنون ويصلون عليه قبل أن يُرفع وأنا فيهم، قال فلم يرعني إلا برجل قد أخذ بمنكبي من ورائي فالتفت فإذا هو عليٌ فترحّم على عمر وقال: ما خلفت أحداً أحبّ إيّ أن ألقى الله بمثل عمله منك، وأيم الله إن كنت لأظن أن يجعلك الله مع صاحبيك، وذاك أنّي كنت أكثر ما أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول: جئت أنا وأبو بكر وعمر ودخلت أنا وأبو بكر وعمر وخرجت أنا وأبو بكر وعمر فإن كنت لأرجو ولأظن أن يجعلك الله معهما)).
وهذا في ذلك الجمع دليل على إجماعهم على جوازه وهو لم يخرج عن ذكره بما علمه منه في حياته وظن الخير له بذلك بعد مماته.

تحذير وإرشاد:
لقد ابتلي كثير من النّاس بالغلوّ فيمن يعتقدون فيهم الصلاح فيجزمون لهم بما لا يعلمه إلا الله، ثمّ زادو على هذا فيزعمون أنّ فلانا مات في رتبة كذا، وحصل عند الله على منزلة كذا، ثمّ زادوا على هذا فيزعمون أنّ فلاناً بشفع لأتباعه ويعديهم على الصراط أو يجعلهم في بطنه ويمر بهم وأنّه يحضر لهم عند الموت ويحضر لهم عند السؤال ويكون معهم في مواقف يوم القيامة، وكلّ هذه الدعاوى انبنت على الجزم بأنّه ممن أكرمه الله وأنّه من أهل الجنّة ذلك الجزم الذي سمعتَ النهي والإنكار صريحين فيه من النبي صلى الله عليه وسلّم على أمّ العلاء في رجل من السابقين الأولين البدريين، وليست هذه الدعاوى المبنية على المخالفة لهذا النهي النبوي الصريح قاصرة على العوام بل تجدها عند غيرهم وتسمعها ممّن يرفعون أنفسهم عن طبقتهم، وتقرأها في الكتب التي عدلت عن الأحاديث النبوية الصحيحة والطريقة النبوية الواضحة وذهب في بنيات الطريق فكانت بلاءً على العامّة وأشباههم ووبالا.

فاحذر أيها الأخ المسلم من عقيدة الجزم بالكرامة والجنّة لغير من نصّ عليه المعصوم عليه وآله الصلاة والسلام. ومن تلك الدعاوى الباطلة التي انبنت عليها.

ولا تجزم بالكرامة على الله لأحد غير المنصوص عليه وإن كان عظيما، فإنّ قول رسول الله صلى الله عليه وسلّم أحق وأعظم وأنْفُ من لا يقول هذا ولا يقبله مرغم.

وكل من استعظمته ممّن هو على جانب من الصلاح والخير فإنّه لا يداني مقام عثمان بن مظعون البدري في الصلاح والخير وقد سمعتَ ما سمعتَ من النهي النبوي عن القطع له بالكرامة.

ومهما أعدنا القول في هذا وأكدنا فإننا لا نفيه حقه من الإنكار والإستئصال لما تعلمه من رسوخ هذه الضلالة وقدمها والتهاون فيها وعظيم التجري على الله بها.

وهذا الحديث النبوي هو دواؤها والقاطع لها، فليتأمله قراؤنا ولينشروه في المسلمين وليذيعوه بالتلاوة والتفسير والتأكيد والتقرير عسى أن يشفي الله به القلوب من داء الغلوّ والإدّعاء والغرور والتغرير، وليظنّ المسلم الخير بأهل الخير وليرج لهم حسن الجزاء والمصير كما رجا النبي صلى الله عليه وسلّم الخير لعثمان ابن مظعون رضي الله تعالى عنه بعدما نهى عن الجزم بالكرامة له، وهذا هو دين الله الحق الوسط السالم من الغلو والتقصير.

والله نسأل لنا ولجميع المسلمين أن يقف بنا عند حدود الشرع الشريف. ويحفظنا من الغلو والتقصير والتحريف، إنّه هو الولي الحفيظ اللطيف.

الشهاب: ج 11 ، م 8 – غرة رجب 1351 هـ - نفمبر 1932 م.

(1) قال الحافظ بن حجر رحمه الله في شرح هذا الحديث:
... ((فوالله ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل بي ولا بكم)) وإنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك موافقة لقوله تعالى في سورة الأحقاف ((قل ما كنت بدعا من الرسل وما أدري ما يفعل بي ولا بكم)) وكان ذلك قبل نزول قوله تعالى ((ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر)) لأن الأحقاف مكية وسورة الفتح مدنية بلا خلاف فيهما.
وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال ((أنا أول من يدخل الجنة)) وغير ذلك من الأخبار الصريحة في معناه فيحتمل أن يحمل الإثبات في ذلك على العلم المجمل والنفي على الإحاطة من حيث التفصيل.اهـ
عدد زوار الموقع