آخر المواضيع

مرحباً بكم على موقع ((لا صوفية في الإسلام)) تجدون في هذا الموقع : مقالات، صوتيات، كتب، مرئيات، وغيرها من الفوائد والفرائد والكنوز. نتمنى لكم متابعة ممتعة ومفيدة..

الاثنين، 25 نوفمبر 2013

:: إرشاد العقّال إلى المعنى الصحيح للأبدال ::



إرشاد العقّال إلى المعنى الصحيح للأبدال

مقدّمة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله أمّا بعد:

فقد استوطنت عقائد شيطانية ضالة مضلّة في عقول وقلوب كثير من المنتسبين إلى الإسلام حتى أخرجت كثيراً منهم عن الإسلام وسلبتهم اسم الإيمان، ومن هذه العقائد الشيطانية التعلّق بما يسمّى بالأبدال والأقطاب والأوتاد والنّجباء وغيرها من الأسماء التي ما أنزل الله بها من سلطان!!

 فإن أكثر الصوفية بل كلّهم وكثير من العوام المتأثّرين بهم يعتقدون أنّ الأبدال والأقطاب وعلى رأسهم القطب الغوث يتصرفون في الكون بالإحياء والإماتة والرزق والضر والنفع وأن مجلس أوليائهم - أو ما يسمّى بديوان الصالحين- تعرض عليه شئون العالم حتى نسب بعضهم لربّ العزّة أنّه قال: الملك ملكي وصرّفتُ فيه البدوي !! وهذا من الشرك الذي ما كان يخطر على بال أبي جهل وإخوانه؛ لأنهم لم يكونوا بوقاحة هؤلاء وفجورهم كما قال في ((قرّة عيون الموحّدين)).

فبفعل هذه العقائد الشيطانية التي حيكت بمكر ودهاء وتُقُبّلت بحمق وغباء استطاع الشيطان الرجيم أن يصرف قلوب معظم الصوفية وكثير من العوام عن التوجّه إلى الله سبحانه والتضرّع إليه وسؤاله والاستغاثة به وطلب قضاء الحاجات منه سبحانه وحده لا شريك له.

فكم من المنتسبين إلى الإسلام من تراهُ عند عتبات أضرحة من يُنسبون إلى الصلاح من الأموات يتضرّعون إليهم ويسألونهم حوائجهم بلهجة مليئة بالتذلّل والانكسار والخشوع والافتقار ممّا لا تجد عشر معشار ذلك في بيوت الله التي ((أذن الله أن تُرفعَ ويذكر فيها اسمّه)).

قال الإمام الرئيس عبد الحميد بن باديس رحمه الله: ((فانظر إلى حالتنا معشر المسلمين الجزائريين وغير الجزائريين، تجد السواد الأعظم من عامّتنا غارقاً في هذا الضلال، فتراهم يدعون من يعتقدون فيهم الصلاح من الأحياء والأموات يسألون حوائجهم من دفع الضرّ، وجلب النّفع، وتيسير الرزق، وإعطاء النّسل، وإنزال الغيث وغير ذلك ممّا يسألون ويذهبون إلى الأضرحة التي شيّدت عليها القباب، أو ظلمت بها المساجد، فيدعون من فيها ويدقون قبورهم وينذرون لهم ويستثيرون حميّتهم بأنّهم خدّامهم وأتباعهم فكيف يتركونهم وقد يهددونهم بترك الزيارة وحبس النّذور، وتراهم هنالك في ذلّ وخشوع وتوجّه قد لا يكون في صلاة من يصلّي منهم، فأعمالهم هذه من دعائهم وتوجّههم كلّها عبادة لأولئك المدعوين وإن لم يعتقدوها عبادة، إذ العبارة باعتبار الشرع لا باعتبارهم، فيا حسرتنا على أنفسنا كيف لبسنا الدّين لباساً مقلوباً حتى أصبحنا في هذه الحالة السيّئة من الضلال.)) (مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير ص158)

وما وصلنا إلى ما وصلنا إليه من الضياع والانحطاط والتعلّق بغير الله تعالى ورجاء غيره سبحانه إلا بفعل مثل هذه العقائد الضالّة المبنية على تقديس الرجال واعتقاد العصمة فيهم وفي أفعالهم وأقوالهم، حتى وصل الأمر إلى اعتقاد المنكر معروفاً والمعروف منكراً !!

 فكم من النّصوص الصوفية المأثورة عن مشايخ الضلال تنصُّ على عدم مؤاخذة الشيخ الصوفي بما يفعله من منكر ظاهر جليّ لأنّ لما يفعله حقيقة وباطناً لا يدركهما العوام أو أهل الغيب !!

 فلو رجعتَ إلى بيتكَ يوماً فرأيت شيخك يركبُ امرأتكَ على سريرك، فلا تعترض فتنطرد ! فإنّ شيخك أراد امتحانك فخيّلَ لك ما رأيتَ أو لعلّ الشيطان أوهمك ذلك لتعترض على حضرة شيخك فتكون من الخاسرين !!

فكم قرأنا في تراجم كثير من الصوفية من كان يشرب المسكر علناً !
ومن كان يبيع الحشيش عند باب الأزهر !!
ومن كان يسرقُ !!
ومن كان يترك الصلاة ولا يصوم رمضان !!
ومن كان يتعمّد إخراج الريح بحضرة النّاس وإسماعهم صوت ضراطه !!
 بل ومن كان يبيتُ في بيوت البغاء ودور الدعارة !
 ومن كان يواقع البهائم !
 ومن كان يخطبُ على المنبر عرياناً والنّاسُ ينظرون !
 ومن كان يؤدّبُ غلمانه بضربهم بإحليله !!
ومن كان يُجامعُ أهلهُ أمام الملأ !! وربّما شاركهُ فيها غيرُهُ !!
 بل ومن كان يُنكحُ كما تُنكحُ المرأة ويُعاشرُ كالنّساء والعياذ بالله تعالى !!!

كلّ هذه الجرائم ترتكبُ أمام أعين النّاس وتحت أنظارهم ولا منكر عليهم والحجّة في ذلك كلّه أنّ هذا المجرم -أقصد الولي الصوفي- من أهل الحقيقة ومن أهل الله ومن المجذوبين ومن الأقطاب وغيرها من الخزعبلات، وأنّ ما صدر منه كرامة من الكرامات !!

والمؤسف في الأمر أن تقرأ هذا الكلام -وزيادة- في كُتب طبقات الصوفية وتقرأ تحته مباشرة ((رضي الله عنه وأرضاه)) !!؟؟

فياليت شعري إذا كان مثل هذا الصنف من الشواذ والمنحرفين والمخرّفين والمتحللين من كلّ خلق حميد رضي الله عنهم فلعنة الله على من ؟!

وأنا وإن كنتُ أُثبتُ كرامات الأولياء كما ثبت ذلك في الكتاب والسنّة وكما تواتر بذلك النّقل عن كثير من السلف والخلف فأنا أفرّقُ بين كرامات الأولياء المتّقين وخرافات الصوفية الكذّابين وأحوال الشياطين والدجّالين.

وليس هذا موضعُ البسط في بيان الفرق بين هذه وتلك، وأحيل القارئ الكريم على كتاب ((الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان)) لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وشرحه للعلامة الشيخ صالح آل الشيخ حفظه الله لمزيد بيان.

سبب الكتابة في هذا الموضوع:

ولما كان لفظ الأبدال قد ورد في بعض الأحاديث الضعيفة والموضوعة ([1]) وجرى ذكرهم على لسان بعض الأئمّة من السلف والخلف ممّن رأى أنّ لأحاديث الأبدال أصلاً لكثرة المتكلّمين بهم، ولمّا كان أكثرُ النّاس لا يفرّقُون بين الصحيح والضعيف أحببتُ أن أوضّح -على عجالة- للعوامّ وأشباههم من أصحاب العمائم من شيوخ الطرق الصوفية المقصود من لفظ (الأبدال) الذي ورد ذكره في بعض كتب أصول السنّة ونقل ذكره عن بعض الأئمّة حتى يتّضح الفرق بين مقصود الأئمّة الأبرار وبين مقصود الصوفية الأشرار.

وقد أفردتُ في هذا الموضوع لفظ (الأبدال) دون غيره من الألفاظ والألقاب كالغوث والقطب والنجباء والأوتاد لعدم تكلّم السلف وأئمّة الدّين بها وإنّما هي ألقاب باطلة من اختراع وابتداع عبّاد القبور من الصوفية ومن شايعهم من أهل الغلوّ في الصالحين وليس فيها معنى صحيح يُبحثُ عنه أويُتكلّفُ في بيانه.


فأقول:

         إنّ الأبدال كما يعتقد كثيرٌ من الصوفية عبّاد القبور هم جماعة من النّاس أصحاب قوى خارقة للعادة بحيث تمكّنهم هذه القوى من التصرّف في الكون بالإحياء والإماتة والغنى والفقر والعافية والمرض وغيرها ممّا شاركوا فيه الله تعالى من خصائص الربوبية وصفات الجلال ونعوت الكمال !!

        فنتج عن هذا الاعتقاد الفاسد اعتقاد أنّ الله تعالى يحفظ نظام الكون بهؤلاء الأشخاص وأنّ النّاس يُسقون ويُغاثون بشفاعة هؤلاء الأشخاص وبالتوسّل بذواتهم كما صرّحت بذلك دائرة المعارف الإسلامية قائلة (العدد 2 ص142): ((الأبدال إحدى المراتب في الترتيب الطبقي للأولياء عند الصوفية، لا يعرفهم عامة الناس – أهل الغيب – وهم يشاركون بما لديهم من اقتدار له أثر في حفظ نظام الكون)) !!! وزعم الدكتور حسن الشرقاوي في معجم ألفاظ الصوفية (ص22-25) أنّ ((مقام الأبدال  مقام عال، إذ بتوسلهم وشفاعتهم يستنـزل المطر ويجلب النصر على العدو وتتقى النكبات العامة)) !!



فصل
مع تعريف المنّاوي للأبدال

وقد عرّفهم الصوفي عبد الرؤوف المنّاوي بقوله (التعاريف ص29-30): ((الأبدال جمع بدل وهم طائفة من الأولياء. قال أبو البقاء كأنهم أرادوا أنهم أبدال الأنبياء وخلفاؤهم)).

 إلى هنا يكون التعريف مقبولاً شرعاً وعقلاً، فإذا قيل إنّ لفظ ((الأبدال)) الوارد على لسان بعض السلف يُقصدُ به العلماء ورثة الأنبياء وعلى رأسهم الصحابة والتابعون والتابعين لهم بإحسان وأئمّة الإسلام المعروفين المشهورين الذين استنارت الدنيا بأقوالهم وأعمالهم ... فهذا ممّا نعتقده ونقول به.

مثاله: قال الإمام البخاري في فروة بن مجاهد: ((كانوا لا يشكّون أنّه من الأبدال)) وقال مكحول البيروتي عن داود بن جميل: ((ما كانوا يشكون أنه من الأبدال)) وقال قتادة: ((أرجو أن يكون الحسن منهم)) أي الأبدال، والحسن هو البصري الإمام المعروف.

فالمقصود بالأبدال ههنا هم أهل العلم وأهل الحديث والفقه والمعرفة بالتّفسير أصحاب العقيدة السنّية السلفية الزكية أهل التقوى والورع والخوف من الله تعالى فهؤلاء هم أولياء الله حقّاً الذين لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتّقون... فقد عنون الإمام الخطيب البغدادي رحمه الله تعالى في كتابه (شرف أصحاب الحديث ص 8): ((من قال إن الأبدال والأولياء أصحاب الحديث)) ثم ساق قول صالح بن محمد الرازي، ويزيد بن هارون، وسفيان الثوري، وأحمد بن حنبل في هذا المعنى، أي أنّ أهل الحديث هم أولياء الله وهم الأبدال ...

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في خاتمة العقيدة الواسطية: ((لكن لما أخبر النبي صلى الله عليه وسلّم أنّ أمّته ستفترق إلى ثلاث وسبعين فرقة؛ كلها في النار إلا واحدة، وهي الجماعة، وفي حديث عنه أنّه قال : ((هم من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي))؛ صار المتمسكون بالإسلام المحض الخالص عن الشوب هم أهل السنة والجماعة، وفيهم الصديقون والشهداء والصالحون، ومنهم أعلام الهدى ومصابيح الدجى أولو المناقب المأثورة والفضائل المذكورة، وفيهم الأبدال، وفيهم أئمة الدين، وهم الطائفة المنصورة الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلّم: ((لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة، لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم، حتى تقوم الساعة))، نسأل الله أن يجعلنا منهم، ولا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا)) ... وقال في المقدّمة: ((فهذا اعتقاد الفرقة الناجية المنصورة إلى قيام الساعة أهل السنة والجماعة)) اهـ .

فدلّ هذا الكلام منه رحمه الله على أنّ من لم يعتقد ما في الواسطية من عقائد فليس من الأبدال كائناً من كان. ودلّ أيضاً أنّ الأبدال الذين أثبعهم بعض السلف هم من أهل السنّة السلفيين لا من غيرهم.
فخرج من وصف الأبدال كلّ صوفي على وجه الأرض !! لأنّه ما من صوفي إلا وهو يخالف العقيدة الواسطية وما فيها من تقريرات سنية لاعتقاد الفرقة الناجية المرضية.

 وكذا لا يصحٌُّ إطلاق وصف الأبدال على كلّ مبتدع مخالف لاعتقاد السلف أصحاب الحديث رحمهم الله تعالى سواء في مسمّى الإيمان وحقيقته وكونه قولٌ باللسان وعقد بالجنان وعمل بالجوارح والأركان وأنّه يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية وأنّ أهله يتفاضلون فيه وليسوا على درجة واحدة.

 أو ما يتعلّق بذات الله تعالى من إثبات ما أثبته الله لنفسه من الأسماء الحسنى والصفات العليا كما يليق بجلاله سبحانه وتنزيهه عمّا نزّه نفسه عنه من غير تعطيل.

أو فيما يتعلّق بتوحيد التوجّه والطلّب وهو المسمّى بتوحيد الألوهية أو العبادة ونفي الشريك عنه سبحانه في الدعاء والرغبة والخشية والإنابة والنّذر والصوم والصلاة والحجّ وسائر العبادات القلبية أو الفعلية.

 وكذا الإيمان بالقدر خيره وشرّه وأنّ الله تعالى كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة وأنّ ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن وأنّ الله خالق العباد وأفعالهم ويسّر أهل السعادة لليسرى ويسّر أهل الشقاوة للعُسرى.

 وكذا ما يتعلّق بالموقف من الصحابة رضوان الله عليهم وطاعة ولاة الأمور وعدم شقّ عصا الطاعة وتفريق الجماعة وغيرها من مسائل الاعتقاد المبثوثة في الواسطية وشروحها وهي منهج الأئمّة الأربعة وعلى رأسهم الإمام أحمد إمام أهل السنّة ولذا قيل لعبد القادر الجيلاني –وهو من المعظّمين عند الصوفية-: ((هل كان من الأولياء من ليس على اعتقاد الإمام أحمد بن حنبل ؟ فقال: ما كان ولن يكون)) ...

فالأبدال الذين ورد ذكرهم على لسان بعض السلف هم أهل السنّة والجماعة السلفيين حقاً لا ادّعاءً وهم المنتهجين لطريقة السلف رضوان الله عليهم في العقيدة والعمل والدّعوة والأخلاق وبهم نُسقى وبهم ينصُرنا الله على أعدائنا أي: بدعائهم وإخلاصهم وحسن توجههم إلى الله تعالى كما قال عليه الصلاة والسلام: ((ابغوني الضعفاء فإنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم)) (الصحيحة 779) وقال: ((هل تنصرون إلا بضعفائكم بدعوتهم وإخلاصهم)) (صحيح الجامع 7034)  وليس بذواتهم كما يعتقد الجهّال من الصوفية ومن شايعهم من أهل البدع والضلال.

فنحنُ نتبرّكُ بدعاء علمائنا وأهل التقوى فينا وتضرّعهم إلى الله تعالى بدعائهم كما ثبت عن عمر رضي الله عنه حين تبرّك وتوسّل بدعاء العبّاس بن عبد المطّلب رضي الله عنه واستسقائه بدعائه لا بذاته.

فالتبرّك بالذوات غير ذات رسول الله صلى الله عليه وسلّم ممنوع غير مشروع بل هو منكر من الفعل ومن رواسب الجاهلية ووسيلة إلى الشرك الذي بعث الله الرسل لأجل إزالته ومحوه من قلوب العباد.

 إذاً، هذه الألقاب إذا صدرت من هؤلاء الأئمّة فلا شكّ في حمل كلامهم على هذا المراد، فمن أثبت أحاديث الأبدال من الأئمّة فلا شكّ أنّه يعتقدُ فيهم ما ذُكرَ آنفاً لا ما يعتقده كثيرٌ من النّاس من أنّ الأبدال أشخاصٌ لهم خوارق أو أنّهم يتصرّفون في الكون ويعلمون الغيب كما هو مدوّن في كتب الصوفية وطبقاتها. قال سماحة الشيخ العلامة محمد بن إبراهيم رحمه الله تعالى في (الفتاوى1/258): ((أحاديث الأبدال فيها ضعف؛ ولكن -والله أعلم- هم أئمة الدين الذين لا يضرهم من خذلهم والذين يذبون عن الدين ويكون جمعاً بين الأخبار)).

وأمّا أبدال الصوفية وعبّاد القبور وكثيرٌ من العوام الجهلة فيقول المنّاوي في تعريفه لهم  : ((... وهم عند القوم سبعة لا يزيدون ولا ينقصون)) !!

ونحنُ نقول بل لا يعلم عددهم إلا الذي فطرهم فإنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول في الحديث المشهور: ((لا تزال طائفة من أمّتي على الحقّ ... )) ويقول أيضاً: ((إنّ الله يبعث لهذه الأمّة ...)) كما صحّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم.

فأولياء الله الصالحون لا تخلوا منهم الأرض إلى قيام الساعة ولا يعلم عددهم إلا الله تعالى وكلّ مؤمن تقي فهو ولي لله وتزداد ولايته كلما زادت تقواه والعكس صحيح.

ثمّ قال المنّاوي: ((يحفظ الله بهم الأقاليم السبعة لكل بلد إقليم فيه ولايته منهم واحد على قدم الخليل وله الإقليم الأول (!) والثاني على قدم الكليم والثالث على قدم هارون والرابع على قدم إدريس والخامس على قدم يوسف والسادس على قدم عيسى والسابع على قدم آدم على ترتيب الأقاليم...))
فهذا الكلام ضلال وتكلّف وخرافة ولم يثبت في شيء من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلّم ولا من كلام السلف رضوان الله عليهم فكان خرافة صوفية بلا شكّ وبلا ريب.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى (زيارة القبور والاستنجاد بالمقبور ص63-64): ((وكذلك عني بالغوث ما يقوله بعضهم‏:‏ من أن في الأرض ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً، يسمونهم ‏(‏النجباء‏)‏، فينتقي منهم سبعون هم ‏(‏النقباء‏)‏، ومنهم أربعون هم ‏(‏الأبدال‏)‏، ومنهم سبعة هم ‏(‏الأقطاب‏)‏، ومنهم أربعة هم ‏(‏الأوتاد‏)‏، ومنهم واحد هو ‏(‏الغوث‏)‏، وأنّه مقيم بمكة، وأنّ أهل الأرض إذا نابهم نائبة في رزقهم ونصرهم فزعوا إلى الثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً، وأولئك يفزعون إلى السبعين، والسبعون إلى الأربعين والأربعون إلى السبعة، والسبعة إلى الأربعة، والأربعة إلى الواحد‏.‏ وبعضهم قد يزيد في هذا وينقص في الأعداد والأسماء والمراتب؛ فإنّ لهم فيها مقالات متعددة حتى يقول بعضهم‏:‏ إنه ينزل من السماء على الكعبة ورقة خضراء باسم غوث الوقت، واسم خضره على قول من يقول منهم‏:‏ إن الخضر هو مرتبة، وإن لكل زمان خضرًا، فإنّ لهم في ذلك قولين وهذا كله باطل لا أصل له في كتاب الله ولا سنة رسوله، ولا قاله أحد من سلف الأمّة ولا أئمتها، ولا من المشايخ الكبار المتقدمين الذين يصلحون للاقتداء بهم‏. ) اهـ

وقال أيضاً:

( وأما الأسماء الدائرة على ألسنة كثير من النُّسّاك والعامّة مثل الغوث الذي يكون بمكة, والأوتاد الأربعة, والأقطاب السبعة, والأبدال الأربعين, والنجباء الثلاثمائة, فهذه الأسماء ليست موجودة في كتاب الله, ولا هي أيضا مأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد صحيح ولا ضعيف محتمل, إلا لفظ الأبدال فقد روي فيهم حديث شامي منقطع الإسناد عن علي بن أبي طالب مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إن فيهم – يعني أهل الشام – الأبدال أربعين رجلا , كلما مات رجل أبدله الله مكانه رجلا)) . ولا توجد هذه الأسماء في كلام السلف كما هي على هذه الترتيب .... )) اهـ

انظر مجموعة الرسائل والمسائل للإمام ابن تيمية (ج1/ ص 57 و 60 ط  بيروت 1983 م , كذلك مجموعة فتاوى ابن تيمية ج11 ص 433 , 434 , 439) والنقل عن التصوّف المنشأ والمصادر لإحسان إلهي ظهير رحمه الله

وقال العلامة الشيخ صالح آل الشيخ حفظه الله في التعليقات الحسان على كتاب الفرقان لشيخ الإسلام: ((وكذا كل حديث يروى عن النبي صلى الله عليه وسلّم في عدة الأولياء والأبدال والنقباء والنجباء والأوتاد والأقطاب مثل أربعة أو سبعة أو انثي عشر أو أربعين أو سبعين أو ثلاثمائة أو ثلاثمائة وثلاثة عشر، أو القطب الواحد، فليس في ذلك شيء صحيح عن النبي ، ولم ينطق السلف بشيء من هذه الألفاظ إلا بلفظ الأبدال، وروى فيهم حديث أنهم أربعون رجلا وأنهم بالشام وهو في المسند من حديث علي كرم الله وجهه[2] وهو حديث منقطع ليس بثابت ومعلوم أن عليا ومن معه من الصحابة كانوا أفضل من معاوية ومن معه بالشام، فلا يكون أفضل الناس في عسكر معاوية دون عسكر علي)). اهـ

والملاحظ أنّه يوجد اختلاف كبير جداً بين الصوفية أنفسهم في تحديد عدد الأبدال وتفصيلات طبقاتهم ممّا يصدقُ عليه قول الله تعالى: ((ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً)).

ثمّ يواصل المنّاوي تعريفه فيقول: ((... وهم عارفون بما أودع الله في الكواكب السيارة من الأسرار والحركات والمنازل وغيرها ...)) فهؤلاء الأبدال منجّمون على حسب تعريف المنّاوي !!

فإنّ المنجّمين هم من يعتقدون في النّجوم والكواكب ويقولون بتأثّر الأحوال السفلية –يعني على الأرض- بتحرّك الأجرام العلوية –يعني الكواكب والنّجوم- ففي فتح المجيد (ص316): ((قال الخطابي: علم النجوم المنهي عنه هو ما يدعيه أهل التنجيم من علم الكوائن والحوادث التي ستقع في مستقبل الزمان، كأوقات هبوب الرياح ومجيء المطر، وتغير الأسعار; وما في معناها من الأمور التي يزعمون أنها تدرك معرفتها بمسير الكواكب في مجاريها، واجتماعها وافتراقها، يدّعون أن لها تأثيرا في السفليات، وهذا منهم تحكم على الغيب، وتعاط لعلم قد استأثر الله به، ولا يعلم الغيب سواه)).

وأمّا عن أسرار النّجوم فقد قال قتادة رحمه الله تعالى: ((إنما جعل الله هذه النجوم لثلاث خصال: جعلها زينة للسماء، وجعلها يهتدى بها، وجعلها رجوما للشياطين. فمن تعاطى فيها غير ذلك فقد قال برأيه، وأخطأ حظه وأضاع نصيبه; وتكلف ما لا علم له به، وإن ناسا جهلة بأمر الله قد أحدثوا في هذه النجوم كهانة: من أعرس بنجم كذا وكذا، كان كذا وكذا، ومن سافر بنجم كذا وكذا، كان كذا وكذا. ولعمري ما من نجم إلا يولد به الأحمر والأسود، والطويل والقصير، والحسن والدميم، وما علم هذه النجوم وهذا الدابة وهذا الطائر بشيء من هذا الغيب، ولو أن أحدا علم الغيب لعلمه آدم الذي خلقه الله بيده، وأسجد له ملائكته وعلمه أسماء كل شيء)) (فتح المجيد ص317).

 قال العلامة محمّد حامد الفقي رحمه الله تعالى تعليقاً على كلام قتادة الآنف: ((في قرة العيون: وقول قتادة -رحمه الله تعالى- يدل على أن علم التنجيم هذا قد حدث في عصره، فأوجب له إنكاره على من اعتقده وتعلق به، هذا العلم مما ينافي التوحيد ويوقع في الشرك؛ لأنه ينسب الحوادث إلى غير من أحدثها، وهو الله سبحانه بمشيئته وإرادته كما قال تعالى: ((هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض)). وقال: ((قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله وما يشعرون أيان يبعثون)) )).

فأنت ترى أنّ الأبدال عند هؤلاء الجهّال منجّمون وكهنة.

 أمّا أهل العلم والتقوى الذين سمّاهم بعض السلف أبدلاً فهم عارفون بالله تعالى بحيث وحّدوه في ربوبيته وفي ألوهيته وفي أسمائه وصفاته فلم يشركوا به سبحانه معه أحداً وهم عارفون بمقاصد الشريعة وبالفقه والتفسير والحديث ويفرّقون بين ما صحّ منه وما لم يصحَّ فشتّان بين علمائنا وبين أبدال الصوفية !!

ثمّ يواصل المنّاوي تعريفه للأبدال فيقول: ((...ولهم من الأسماء أسماء وكل واحد بحسب ما يعطيه حقيقة ذلك الاسم الإلهي من الشمول والإحاطة)) فما المقصود بهذا الكلام ؟! نعوذ بالله من هذا الضلال وهذا الغلوّ في الصالحين.

وأمّا أولياء الله الصالحون الذين وصفهم بعض السلف بالأبدال فليس لهم من الأسماء إلا ما سمّاهم به آباؤهم وليس فيهم من الخصال الخلقية ما ليس في سائر البشر وليس لهم اطّلاع على الغيب ولا تحكّم في الكون ولا في أقدار الخلائق بل هم بشرٌ عاديون يصيبهم ما يصيبُ البشر من بلاء ومرض وبرد وحرارة ونعاس وسهو وفرح وغضب وحزن وجوع وعطش وغيرها من الخصال البشرية، ولكنّهم أقوامٌ عرفوا الله تعالى فقدروه حقّ قدره وآمنوا به وبرسوله واتّبعوا سبيله وحفظوا سنّته وعملوا بها وعلّموها فحفظ الله بهم الملّة والشريعة من تلبيس الملبسين وتأويل الجاهلين وانتحال المبطلين.

 فأبدالنا أهل العلم والفقه في دين الله تعالى وأهل التقوى والعمل الصالح المبني على الإخلاص لله تعالى والمتابعة لرسوله صلى الله عليه وسلّم وعلى رأس هؤلاء أئمّة الجرح والتّعديل الذين حفظ الله بهم الدين وصانه من التحريف اللفظي والمعنوي.


خاتمة:

فمما سبق بيانه اتّضحَ –إن شاء الله تعالى – أنّ ما يُسمّى بالأبدال الأربعين أو الثلاثين أو السبعة أسطورة خيالة وحكاية خرافية نسجتها الأوهام وخاط خيوطها الشيطان ليصرف العباد عن عبادة الرحمن إلى عبادة أشباههم من بني الإنسان.

وهذا كان دأب الشيطان منذ القديم فقد كانت أوّل بدايات الشرك في قوم نوح عليه السلام عن طريق التعلّق بالصالحين. قال في تيسير العزيز الحميد (ص254): ((فإنه –أي التعلّق بالصالحين- أصل الشرك قديمًا وحديثًا لقرب الشرك بالصالحين من النفوس فإن الشيطان يظهره في قالب المحبة والتعظيم)).

وبان بحول الله تعالى أنّ ما ورد على لسان بعض السلف من التكلّم بلفظ الأبدال إنّما أرادوا به أهل العلم والتقوى من أصحاب الحديث وأئمّة الجرح والتعديل حماة الدين والشريعة الغرّاء لا كما يطلقه الصوفية الأشرار على شرار الخلق من الشواذ والمنحرفين والزنادقة والمعتوهين واقرأ على سبيل المثال سيرة ((إبراهيم العريان)) و((عبد القادر السبكي)) و((علي وحيش)) و((حسن أبو علي)) و((أحمد البدوي)) في ((الطبقات الكبرى)) للشعراني و((جامع كرامات الأولياء)) للنّبهاني وغيرها من الكتب التي تطفحُ بالثناء على شذّاذ الأفاق والمجّان والمخرّفين وعدّهم من الأبدال وأولياء الله الصالحين.


هذا والله تعالى أعلم وصل الله على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً كثيراً.

أخوكم الغريب
24/12/1434
 الموافق لـ  28/10/2013





[1]  قال العلامة الإمام ابن قيّم الجوزية رحمه الله تعالى في (المنار المنيف ص 136): ((ومن ذلك أحاديث الأبدال والأقطاب والأغواث والنقباء والنجباء والأوتاد كلها باطلة على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأقرب ما فيها ((لا تسبوا أهل الشام فإن فيهم البدلاء كلما مات رجل منهم أبدل الله مكانه رجلا آخر)). ذكره أحمد ولا يصح أيضا فإنه منقطع.)) اهـ

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في المنهاج (ج1/ص94): ((لفظ الأبدال تكلم به بعض السلف ويروى فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث ضعيف)) اهـ
[2]  هكذا في الأصل.

السبت، 6 جويلية 2013

:: قال الإمام مالك في الصوفية: ما سمعت أن أحداً من أهل الإسلام يفعل هذا ::

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله: فقدروى القاضي عياض رحمه الله في كتابه "ترتيب المدارك وتقريب المسالك لمعرفة أعلام مذهب مالك" (2ـ54) عن عبد الله بن يوسف التنيسي ، وكان أحد الحاضرين لهذه القصة ، وهو من مشاهير أصحاب الإمام مالك. قال التنيسي: 
كنا عند مالك وأصحابه حوله فقال رجل من أهل نصيبين: يا أبا عبد الله عندنا قوم يقال لهم الصوفية يأكلون كثيراً ثم يأخذون في القصائد ثم يقومون فيرقصون.
 فقال مالك: أصبيان هم ؟
قال: لا. 
قال: أمجانين  ؟
قال: لا ، قوم مشائخ وغير ذلك عقلاًء. 
قال مالك: ما سمعت أن أحداً من أهل الإسلام يفعل هذا. 
قال الرجل: بل يأكلون ثم يقومون فيرقصون نوائب ويلطم بعضهم رأسه وبعضهم وجهه. فضحك مالك ثم قام فدخل منـزله. 

فقال أصحاب مالك للرجل: لقد كنت يا هذا مشؤوماً على صاحبنا، لقد جالسناه نيفاً وثلاثين سنة فما رأيناه ضحك إلا في هذا اليوم .

 

السبت، 29 جوان 2013

:: فتوى الإمام ابن قدامة المقدسي في الصوفية ::





الحمد لله وصلى الله على محمد وآله وسلم..
ما تقول السادة الفقهاء - احسن الله توفيقهم - فيمن يسمع الدف والشبانة والغناء ويتواجد ، حتى انه يرقص ، هل يحل ذلك ام لا؟ مع اعتقاده انه محب لله وان سماعه وتواجده ورقصه في الله؟.
وفي اي حال يحل الضرب بالدف؟ هل هو مطلق ، او في حالة مخصوصة؟.
وهل يحل سماع الشعر بالالحان في الأماكن الشريفة ، مثل المساجد وغيرها؟
افتونا مأجورين ، رحمكم الله .


 

قال الشيخ الامام العالم الأوحد شيخ الإسلام ، موفق الدين ، أو عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي رضي الله عنه :

الجواب وبالله التوفيق : ان فاعل هذا مخطيء ساقط المروءة ، والدائم على هذا الفعل مردود الشهادة في الشرع ، غير مقبول القول : ومقتضى هذا : أنه لا تقبل روايته لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا شهادته برؤية هلال رمضان ، ولا أخباره الدينية .

وأما اعتقاده محبة الله عز وجل ، فانه يمكن ان يكون محباً لله سبحانه ، مطيعا له في غير هذا ، ويجوز أن يكون له معاملة مع الله سبحانه ، وأعمال صالحة في غير هذا المقام .

وأما هذا فمعصية ولعب ، ذمه الله تعالى ورسوله ، وكرهه اهل العلم ، وسموه : بدعة ، ونهوا عن فعله ، ولا يُتقرب الى الله سبحانه بمعاصيه ، ولا يُطاع بارتكاب مناهيه ، ومن جعل وسيلته الى الله سبحانه معصيته ، كان حظه الطرد والابعاد ، ومن اتخذ اللهو واللعب دينا ، كان كمن سعى في الارض الفساد ، ومن طلب الوصول الى الله سبحانه من غير طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته فهو بعيد من الوصول الى المراد .

وقد روى أبو بكر الاثرم قال : سمعت أبا عبد الله - يعني احمد بن جنبل - يقول : " التغبير محدث " وقال ابو الحارث : سألت أبا عبد الله عن التغبير وقلت : انه ترق عليه القلوب . فقال : " هو بدعة " وروى غيره انه كرهه ، ونهى عن اسماعه .

وقال الحسن بن عبد العزيز الجروي : سمعت الشافعي محمد بن ادريس يقول : " تركت بالعراق شيئاً يقال له التغبير ، أحدثته الزنادقة ، يصدون الناس به عن القرآن " .

وقال يزيد بن هارون : " ما يغبر إلا فاسق ، ومتى كان التغبير ؟ " .

وقال عبد الله بن داود : " أرى ان يضرب صاحب التغبير " .

والتغبير : اسم لهذا السماع ، وقد كرهه الائمة كما ترى . ولم ينضم اليه هذه المكروهات من الدفوف والشبابات ، فكيف به إذا انضمت اليه واتخذوه ديناً؟ فما أشبههم بالذين عابهم الله تعالى بقوله : { وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية } قيل المكاء التصفير ، والتصدية : التصفيق . وقال الله سبحانه لنبيه : { وذر الذين اتخذوا دينهم لعباً ولهواً وغرتهم الحياة الدنيا } .

ومن المعلوم ان الطريق الى الله سبحانه انما تعلم من جهة الله تعالى بواسطة رسوله صلى الله عليه وسلم ، فإن الله تعالى رضيه هادياً ومبيناً ، وبشيراً ونذيراً ، وأمر باتباعه ، وقرن طاعته بطاعته ، ومعصيته بمعصيته ، وجعل اتباعه دليلاً على محبته ، فقال سبحانه : { وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن تكون لهم الخيرة من أمرهم ، ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبيناً } وقال سبحانه : { إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم } .

ومن المعلوم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان شفيقاً على أمته ، حريصاً على هداهم رحيماً بهم ، فما ترك طريقاً تهدي إلى الصواب إلا وشرعها لأمته ، ودلهم عليها بفعله وقوله ، وكان أصحابه عليهم السلام من الحرص على الخير والطاعة ، والمسارعة إلى رضوان الله بحيث لم يتركوا خصلة من خصال الخير إلا سابقوا اليها ، فما نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من صحابته انه سلك هذه الطريقة الرديئة ، ولا سهر ليلة في سماع يتقرب به إلى الله سبحانه ، ولا قال : من رقص فله من الأجر كذا ، ولا قال : الغناء ينبت الإيمان في القلب ، ولا استمع الشبابة فأصغى اليها وحسنها ؛ او جعل في اسمتاعها وفعلها أجراً . وهذا أمر لا يمكن مكابرته ، وإذا صح هذا لزم أن لا يكون قربة إلى الله سبحانه ، ولا طريقاً موصلا اليه ، ووجب أن يكون من شر الأمور ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " خير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها " وهذا منها . وقال عليه الصلاة والسلام : " كل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة " .

وقد سمى الأئمة هذا بدعة بما ذكرناه .

فأما تفصيل هذه المسموعات من الدف والشبابة وسماع كل واحد منهما منفرداً : فإن هذه جميعها من اللعب ، فمن جعلها دأبه أو اشتهر بفعلها أو استماعها أو قصدها في مواضعها أو قصد من أجلها فهو ساقط المروءة ، ولا تقبل شهادته، ولا يعد من أهل العدالة ، وكذلك الرقاص .

وأغلظها الشبابة ، فإنه قد روي فيها الحديث الذي يرويه سليمان بن موسى عن نافع قال : كنت مع ابن عمر في طريق فسمع صوت زامر يرعى ، فعدل عن الطريق وأدخل اصبعيه في اذنيه ثم قال : يا نافع ، هل تسمع؟ هل تسمع؟ قلت : نعم ، فمضى ثم قال : يا نافع ، هل تسمع؟ قلت : لا ، فأخرج يديه من اذنيه ، قال : هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل . رواه الخلال في " جامعه " عن عوف بن محمد المصري عن مروان الطاطري عن سعيد بن عبد العزيز عن سليمان بن موسى . ورواه أيضاً عن عثمان بن صالح الانطاكي عن محمود بن خالد عن أبيه عن المطعم بن المقدام عن نافع .

وسئل أحمد عن هذا الحديث ، فقال : يرويه سليمان ابن موسى عن نافع عن ابن عمر .

وهذا مبالغة من النبي صلى الله عليه وسلم في تحريمه ، لسد أذنيه وعدوله عن الطريق ولم يكتف بأحدهما عن الآخر .

ولأنها من المزامير ، وما بلغنا عن أحد من العلماء الرخصة في المزمار ، فهي كالطنبور ، بل هي أغلظ ، فانه ورد فيها ما لم يرد فيه .

وأما الغناء فقد اختلف العلماء فيه . وكان أهل المدينة يرخصون فيه ، وخالفهم كثير من أهل العلم ، وعابوا قولهم .

قال عبد الله بن مسعود : " الغناء ينبت النفاق في القلب " . وقال مكحول : " من مات وعنده مغنية لم يصل عليه " . وقال معمر : " لو أن رجلا أخذ بقول أهل المدينة في السماع - يعني الغنا - ، واتيان النساء في ادبارهن - وبقول أهل مكة في المتعة والصرف ، وبقول أهل الكوفة في المسكر ، كان شر عباد الله " .

وسئل مالك بن أنس عما يترخص فيه أهل المدينة من الغناء فقال : " إنما يفعله عندنا الفساق " ، وكذلك قال ابراهيم بن المنذر الخزامي .

وعلى كل حال فهو مكروه وليس من شأن أهل الدين .

فأما فعله في المساجد فلا يجوز ، فان المساجد لم تبن لهذا . ويجب صونها عما هو أدنى منه ، فكيف بهذا الذي هو شعار الفساق ومنبت النفاق؟!

وأما الدف فهو أسهل هذه الخصال . وقد أمر به النبي صلى الله عليه وسلم في النكاح وجاءت الرخصة فيه في غير النكاح أيضاً . ولا يتبين لي تحريمه إلا ان يكون الضارب به رجلا يتشبه بالنساء ، فيحرم لما فيه من تشبه الرجال بالنساء . أو يضرب به عند الميت ، فيكون ذلك إظهاراً للسخط بقضاء الله والمحاربة له ، فأما إن خلا من ذلك فلست أراه حراماً بحال .

وقد كام أصحاب عبد الله بن مسعود يخرقون الدفوف ويشددون فيها ، وذكر أحمد عنهم ولم يذهب اليه ، لأن السنة وردت بالرخصة فيه ، وهي أحق ما اتبع .

فقد روي عن عياض بن غنم صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم - وقد شهد عيداً بالانبار - فقال : ما أراكم تقلسون؟ كانوا يقلسون في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعلونه . قال يزيد بن هارون : التقليس : ضرب الدف .

وقال أنس بن مالك : مر النبي صلى الله عليه وسلم بجوار من بني نجار وهن يضربن بدف لهن وهن يقلن :

نحن جوار من بني النجار
وحبذا محمد من جار

فقال : " الله يعلم اني أحبكم " .

وروي ان امرأة قالت للنبي صلى الله عليه وسلم : إني نذرت إن سلمك الله ان أضرب على رأسك بالدف ، فقال : " إن كنت نذرت فافعلي وإلا فلا " أو كما جاء .

وفي الجملة فانه وإن رخص فيه للاعب ، فإنا نعتقده لعباً ولهواً .

فأما من يجعله دينا ، ويجعل استماعه واستماع الغناء قربة وطريقاً إلى الله سبحانه ، فلا يكاد يوصله ذلك إلا إلى سخط الله ومقته وربما انضم إلى ذلك النظر إلى النساء المحرمات أو غلام جميل يسلبه دينه ، ويفتن قلبه ، ويخالف ربه في قوله سبحانه { وقل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم } فكان دليلاً على تسامحه في المخالفة لقوله { ويحفظوا فروجهم } ولم يكن ذلك أزكى لهم . ومن ابتلي بمخالفة أول الآية فليبادر إلى العمل بآخرها { وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون } .

وقد قال بعض التابعين : " ما انا بأخوف على الشاب الناسك من سبع ضار أكثر من الغلام الأمرد يقعد إليه .

وقال ابو سهل : " سيكون في هذه الأمة قوم يقال لهم : اللائطون على ثلاثة أصناف : صنف ينظرون ، وصنف يصافحون ، وصنف يعملون ذلك العمل " .

وعن الحسن بن ذكوان انه قال : " لا تجالسوا اولاد الاغنياء فإن لهم صوراً كصور النساء ، وهم أشد فتنة من العذارى " .

ولا ينبغي لأحد ان يغتر بنفسه . أو يثق بما يظن في نفسه من صلابة دينه ، وقوة ايمانه ، فان من خالف حدود الله تعالى ونظر الى ما منعه الشرع من النظر اليه ، نزعت منه العصمة ، ووكل إلى نفسه ، وكيف يغتر عاقل بذلك ، وقد علم ما ابتلي به داود نبي الله عليه السلام ، وهو أعبد البشر ، ونبي من انبياء الله تعالى ، يأتيه خير السماء ، وتختلف اليه الملائكة بالوحي ، ومع ذلك وقع فيما وقع فيه من الذنب بسبب نظرة نظرها . وبعض عباد بني إسرائيل عبد الله سبعين عاما ثم نظر الى امرأة فافتتن بها . وبرصيصا العابد ، كان هلاكه بسبب النظر ، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول لعلي عليه السلام : " لا تتبع النظرة النظرة ، فإنما لك الأولى وليست لك الأخرى " . وهو من سادات هذه الأمة ، ومحله من الدين والعلم والمعرفة بالله تعالى وبحقه وحدوده وحرماته محله ، فمن انت ايها المغرور الجاهل بنفسه؟ انظر أين أنت من هؤلاء المذكورين ، وقد روى اسامة بن زيد قال :قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما تركت فتنة بعدي اضر على الرجال من النساء " وجاء في الاثر : " ان النظرة سهم مسموم من سهام إبليس " . وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " العينان تزنيان وزناهما النظر " وقال الفضيل بن عياض : " الغناء رقية الزنا " ، فإذا اجتمعت رقية الزنا وداعيته ورائده فقد استكملت أسبابه .

وقد روي عن عمر بن عبد العزيز انه قال : " انه بلغني عن الثقات من حملة العلم أن حضور المعازف واستماع الاغاني واللهج بها ينبت النفاق في القلب كما ينبت العشب الماء " .

ولعمري لتوقي ذلك بترك حضور تلك المواطن أيسر على ذي الذهن من الثبوت على الايمان ما ما ينبت النفاق في قلبه ، وهو حين يفارقها لا يعتقد احتواء اذنيه على شيء مما ينتفع به .

فمن أحب النجاة غدا ، والمصاحبة لأئمة الهدى ، والسلامة من طريق الردى ، فعليه بكتاب الله فليعمل بما فيه ، وليتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته فلينظر ما كانوا عليه ، فلا يعدوه بقول ولا فعل ، وليجعل عبادته واجتهاده على سننهم ، وسلوكه في طريقهم ، وهمته في اللحاق بهم ، فان طريقهم هو الصراط المستقيم ، الذي علمنا الله سبحانه سؤاله ، وجعل صحة صلاتنا موقوفة على الدعاء به فقال سبحانه معلما لنا : { اهدنا الصراط المستقيم ، صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين } آمين .

فمن شك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان على الصراط المستقيم فقد مرق من الدين ، وخرج من جملة المسلمين ، ومن علم ذلك ، وصدق ورضي بالله رباً ، وبالإسلام ديناً ، وبمحمد نبيا ، وعلم أن الله تعالى قد أمرنا باتباع نبيه بقوله سبحانه : { واتبعوه لعلكم تهتدون } وغير ذلك من الآيات . وقول النبي صلى الله عليه وسلم : " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي ، عضوا عليها بالنواجذ ، وإياكم ومحدثات الأمور ، فإن كل محدة بدعة ، وكل بدعة ضلالة " وقوله عليه الصلاة والسلام : " خير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها " . فما باله يلتفت عن طريقه يميناً وشمالاً . ينصرف عنها حالاً فحالاً ويطلب الوصول إلى الله سبحانه من سواها ، ويبتغي رضاه فيما عداها .

أتراه يجد أهدى منها سبيلاً ، ويتبع خيراً من رسول الله صلى الله عليه وسلم دليلاً؟ كلا ، لن يجد سوى سبيل الله سبحانه إلا سبيل الشيطان ، ولن يصل من غيرها إلا إلى سخط الرحمن ، قال الله تعالى : { وان هذا صراطي مستقميا فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ، ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون } .

وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم انه خط خطا مستقيما فقال : " هذا سبيل الله " وخط من ورائه خطوطا فقال : " هذه سبل الشيطان ، على كل سبيل منها شيطان يدعوا اليه ، من أجابهم اليها قذفوه في النار " أو كما جاء الخبر .

فأخبر أن ما سوى سبيل الله هي سبل الشيطان ، من سلكها قذف في النار ، وسبيل الله التي مضى عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأولياؤه والسابقون الأولون ، واتبعهم فيها التابعون بإحسان الى يوم الدين ، { رضي الله عنهم ورضوا عنه ، أعد لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك الفوز العظيم } ، فمن سلكها سعد ، ومن تركها بعد .

وطريق رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته وأخلاقه وسيرته وما كان عليه في عبادته وأحواله مشهور بين أهل العلم ، ظاهر لمن أحب الاقتداء به واتباعه ، وسلوك منهجه ، والحق واضح لمن أراد الله هدايته وسلامته و { من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً } .

ثبتنا الله وإياكم على صراطه المستقيم ، وجعلنا وإياكم ممن يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم ، خالدين فيها أبداً ان الله عنده أجر عظيم .

فيا أيها الآدمي المسكين المخلوق لأمر عظيم ، الذي خُلقت من أجله الجحيم وجنات النعيم ، إذا أنت أصغيت إلى الملاهي بسمعك ، ونظرت إلى محارم الله ببصرك ، وأكلت الشبهات بفيك ، وأدخلتها إلى بطنك ، ورضيت لنفسك برقصك ونقصك ، وأذهبت أوقاتك العزيزة في هذه الاحوال الخسيسة ، وضيعت عمرك الذي ليست له قيمة ، في كسب هذه الخصال الذميمة ، وشغلت بدنك المخلوق للعبادة ، بما نهى الله عنه عباده ، وجلست مجالس البطالين ، وعملت أعمال الفاسقين والجاهلين ، فسوف تعلم إذا انكشف الغطاء ، ونزل القضاء ، ماذا يحل بك من الندم يوم ترى منازل السابقين ، وأجور العاملين ، وأنت مع المخلفين المفرطين ، معدود في جملة المبطلين الغافلين ، قد زلت بك القدم ، ونزل بك الالم ، واشتد بك الندم ، فيومئذ لا يُرحم من بكى ، ولا يُسمع من شكى ، ولا يقال من ندم ، ولا ينجو من عذاب الله إلا من رحم . .

أيقظنا الله وإياكم من سنة الغفلة ، واستعملنا وإياكم لما خلقنا له برحمته


تمت الفتيا
والحمد لله وحده ، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً

:: فتوى الإمام ابن قدامة المقدسي في الصوفية ::





الحمد لله وصلى الله على محمد وآله وسلم..
ما تقول السادة الفقهاء - احسن الله توفيقهم - فيمن يسمع الدف والشبانة والغناء ويتواجد ، حتى انه يرقص ، هل يحل ذلك ام لا؟ مع اعتقاده انه محب لله وان سماعه وتواجده ورقصه في الله؟.
وفي اي حال يحل الضرب بالدف؟ هل هو مطلق ، او في حالة مخصوصة؟.
وهل يحل سماع الشعر بالالحان في الأماكن الشريفة ، مثل المساجد وغيرها؟
افتونا مأجورين ، رحمكم الله .


 

قال الشيخ الامام العالم الأوحد شيخ الإسلام ، موفق الدين ، أو عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي رضي الله عنه :

الجواب وبالله التوفيق : ان فاعل هذا مخطيء ساقط المروءة ، والدائم على هذا الفعل مردود الشهادة في الشرع ، غير مقبول القول : ومقتضى هذا : أنه لا تقبل روايته لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا شهادته برؤية هلال رمضان ، ولا أخباره الدينية .

وأما اعتقاده محبة الله عز وجل ، فانه يمكن ان يكون محباً لله سبحانه ، مطيعا له في غير هذا ، ويجوز أن يكون له معاملة مع الله سبحانه ، وأعمال صالحة في غير هذا المقام .

وأما هذا فمعصية ولعب ، ذمه الله تعالى ورسوله ، وكرهه اهل العلم ، وسموه : بدعة ، ونهوا عن فعله ، ولا يُتقرب الى الله سبحانه بمعاصيه ، ولا يُطاع بارتكاب مناهيه ، ومن جعل وسيلته الى الله سبحانه معصيته ، كان حظه الطرد والابعاد ، ومن اتخذ اللهو واللعب دينا ، كان كمن سعى في الارض الفساد ، ومن طلب الوصول الى الله سبحانه من غير طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته فهو بعيد من الوصول الى المراد .

وقد روى أبو بكر الاثرم قال : سمعت أبا عبد الله - يعني احمد بن جنبل - يقول : " التغبير محدث " وقال ابو الحارث : سألت أبا عبد الله عن التغبير وقلت : انه ترق عليه القلوب . فقال : " هو بدعة " وروى غيره انه كرهه ، ونهى عن اسماعه .

وقال الحسن بن عبد العزيز الجروي : سمعت الشافعي محمد بن ادريس يقول : " تركت بالعراق شيئاً يقال له التغبير ، أحدثته الزنادقة ، يصدون الناس به عن القرآن " .

وقال يزيد بن هارون : " ما يغبر إلا فاسق ، ومتى كان التغبير ؟ " .

وقال عبد الله بن داود : " أرى ان يضرب صاحب التغبير " .

والتغبير : اسم لهذا السماع ، وقد كرهه الائمة كما ترى . ولم ينضم اليه هذه المكروهات من الدفوف والشبابات ، فكيف به إذا انضمت اليه واتخذوه ديناً؟ فما أشبههم بالذين عابهم الله تعالى بقوله : { وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية } قيل المكاء التصفير ، والتصدية : التصفيق . وقال الله سبحانه لنبيه : { وذر الذين اتخذوا دينهم لعباً ولهواً وغرتهم الحياة الدنيا } .

ومن المعلوم ان الطريق الى الله سبحانه انما تعلم من جهة الله تعالى بواسطة رسوله صلى الله عليه وسلم ، فإن الله تعالى رضيه هادياً ومبيناً ، وبشيراً ونذيراً ، وأمر باتباعه ، وقرن طاعته بطاعته ، ومعصيته بمعصيته ، وجعل اتباعه دليلاً على محبته ، فقال سبحانه : { وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن تكون لهم الخيرة من أمرهم ، ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبيناً } وقال سبحانه : { إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم } .

ومن المعلوم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان شفيقاً على أمته ، حريصاً على هداهم رحيماً بهم ، فما ترك طريقاً تهدي إلى الصواب إلا وشرعها لأمته ، ودلهم عليها بفعله وقوله ، وكان أصحابه عليهم السلام من الحرص على الخير والطاعة ، والمسارعة إلى رضوان الله بحيث لم يتركوا خصلة من خصال الخير إلا سابقوا اليها ، فما نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من صحابته انه سلك هذه الطريقة الرديئة ، ولا سهر ليلة في سماع يتقرب به إلى الله سبحانه ، ولا قال : من رقص فله من الأجر كذا ، ولا قال : الغناء ينبت الإيمان في القلب ، ولا استمع الشبابة فأصغى اليها وحسنها ؛ او جعل في اسمتاعها وفعلها أجراً . وهذا أمر لا يمكن مكابرته ، وإذا صح هذا لزم أن لا يكون قربة إلى الله سبحانه ، ولا طريقاً موصلا اليه ، ووجب أن يكون من شر الأمور ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " خير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها " وهذا منها . وقال عليه الصلاة والسلام : " كل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة " .

وقد سمى الأئمة هذا بدعة بما ذكرناه .

فأما تفصيل هذه المسموعات من الدف والشبابة وسماع كل واحد منهما منفرداً : فإن هذه جميعها من اللعب ، فمن جعلها دأبه أو اشتهر بفعلها أو استماعها أو قصدها في مواضعها أو قصد من أجلها فهو ساقط المروءة ، ولا تقبل شهادته، ولا يعد من أهل العدالة ، وكذلك الرقاص .

وأغلظها الشبابة ، فإنه قد روي فيها الحديث الذي يرويه سليمان بن موسى عن نافع قال : كنت مع ابن عمر في طريق فسمع صوت زامر يرعى ، فعدل عن الطريق وأدخل اصبعيه في اذنيه ثم قال : يا نافع ، هل تسمع؟ هل تسمع؟ قلت : نعم ، فمضى ثم قال : يا نافع ، هل تسمع؟ قلت : لا ، فأخرج يديه من اذنيه ، قال : هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل . رواه الخلال في " جامعه " عن عوف بن محمد المصري عن مروان الطاطري عن سعيد بن عبد العزيز عن سليمان بن موسى . ورواه أيضاً عن عثمان بن صالح الانطاكي عن محمود بن خالد عن أبيه عن المطعم بن المقدام عن نافع .

وسئل أحمد عن هذا الحديث ، فقال : يرويه سليمان ابن موسى عن نافع عن ابن عمر .

وهذا مبالغة من النبي صلى الله عليه وسلم في تحريمه ، لسد أذنيه وعدوله عن الطريق ولم يكتف بأحدهما عن الآخر .

ولأنها من المزامير ، وما بلغنا عن أحد من العلماء الرخصة في المزمار ، فهي كالطنبور ، بل هي أغلظ ، فانه ورد فيها ما لم يرد فيه .

وأما الغناء فقد اختلف العلماء فيه . وكان أهل المدينة يرخصون فيه ، وخالفهم كثير من أهل العلم ، وعابوا قولهم .

قال عبد الله بن مسعود : " الغناء ينبت النفاق في القلب " . وقال مكحول : " من مات وعنده مغنية لم يصل عليه " . وقال معمر : " لو أن رجلا أخذ بقول أهل المدينة في السماع - يعني الغنا - ، واتيان النساء في ادبارهن - وبقول أهل مكة في المتعة والصرف ، وبقول أهل الكوفة في المسكر ، كان شر عباد الله " .

وسئل مالك بن أنس عما يترخص فيه أهل المدينة من الغناء فقال : " إنما يفعله عندنا الفساق " ، وكذلك قال ابراهيم بن المنذر الخزامي .

وعلى كل حال فهو مكروه وليس من شأن أهل الدين .

فأما فعله في المساجد فلا يجوز ، فان المساجد لم تبن لهذا . ويجب صونها عما هو أدنى منه ، فكيف بهذا الذي هو شعار الفساق ومنبت النفاق؟!

وأما الدف فهو أسهل هذه الخصال . وقد أمر به النبي صلى الله عليه وسلم في النكاح وجاءت الرخصة فيه في غير النكاح أيضاً . ولا يتبين لي تحريمه إلا ان يكون الضارب به رجلا يتشبه بالنساء ، فيحرم لما فيه من تشبه الرجال بالنساء . أو يضرب به عند الميت ، فيكون ذلك إظهاراً للسخط بقضاء الله والمحاربة له ، فأما إن خلا من ذلك فلست أراه حراماً بحال .

وقد كام أصحاب عبد الله بن مسعود يخرقون الدفوف ويشددون فيها ، وذكر أحمد عنهم ولم يذهب اليه ، لأن السنة وردت بالرخصة فيه ، وهي أحق ما اتبع .

فقد روي عن عياض بن غنم صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم - وقد شهد عيداً بالانبار - فقال : ما أراكم تقلسون؟ كانوا يقلسون في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعلونه . قال يزيد بن هارون : التقليس : ضرب الدف .

وقال أنس بن مالك : مر النبي صلى الله عليه وسلم بجوار من بني نجار وهن يضربن بدف لهن وهن يقلن :

نحن جوار من بني النجار
وحبذا محمد من جار

فقال : " الله يعلم اني أحبكم " .

وروي ان امرأة قالت للنبي صلى الله عليه وسلم : إني نذرت إن سلمك الله ان أضرب على رأسك بالدف ، فقال : " إن كنت نذرت فافعلي وإلا فلا " أو كما جاء .

وفي الجملة فانه وإن رخص فيه للاعب ، فإنا نعتقده لعباً ولهواً .

فأما من يجعله دينا ، ويجعل استماعه واستماع الغناء قربة وطريقاً إلى الله سبحانه ، فلا يكاد يوصله ذلك إلا إلى سخط الله ومقته وربما انضم إلى ذلك النظر إلى النساء المحرمات أو غلام جميل يسلبه دينه ، ويفتن قلبه ، ويخالف ربه في قوله سبحانه { وقل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم } فكان دليلاً على تسامحه في المخالفة لقوله { ويحفظوا فروجهم } ولم يكن ذلك أزكى لهم . ومن ابتلي بمخالفة أول الآية فليبادر إلى العمل بآخرها { وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون } .

وقد قال بعض التابعين : " ما انا بأخوف على الشاب الناسك من سبع ضار أكثر من الغلام الأمرد يقعد إليه .

وقال ابو سهل : " سيكون في هذه الأمة قوم يقال لهم : اللائطون على ثلاثة أصناف : صنف ينظرون ، وصنف يصافحون ، وصنف يعملون ذلك العمل " .

وعن الحسن بن ذكوان انه قال : " لا تجالسوا اولاد الاغنياء فإن لهم صوراً كصور النساء ، وهم أشد فتنة من العذارى " .

ولا ينبغي لأحد ان يغتر بنفسه . أو يثق بما يظن في نفسه من صلابة دينه ، وقوة ايمانه ، فان من خالف حدود الله تعالى ونظر الى ما منعه الشرع من النظر اليه ، نزعت منه العصمة ، ووكل إلى نفسه ، وكيف يغتر عاقل بذلك ، وقد علم ما ابتلي به داود نبي الله عليه السلام ، وهو أعبد البشر ، ونبي من انبياء الله تعالى ، يأتيه خير السماء ، وتختلف اليه الملائكة بالوحي ، ومع ذلك وقع فيما وقع فيه من الذنب بسبب نظرة نظرها . وبعض عباد بني إسرائيل عبد الله سبعين عاما ثم نظر الى امرأة فافتتن بها . وبرصيصا العابد ، كان هلاكه بسبب النظر ، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول لعلي عليه السلام : " لا تتبع النظرة النظرة ، فإنما لك الأولى وليست لك الأخرى " . وهو من سادات هذه الأمة ، ومحله من الدين والعلم والمعرفة بالله تعالى وبحقه وحدوده وحرماته محله ، فمن انت ايها المغرور الجاهل بنفسه؟ انظر أين أنت من هؤلاء المذكورين ، وقد روى اسامة بن زيد قال :قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما تركت فتنة بعدي اضر على الرجال من النساء " وجاء في الاثر : " ان النظرة سهم مسموم من سهام إبليس " . وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " العينان تزنيان وزناهما النظر " وقال الفضيل بن عياض : " الغناء رقية الزنا " ، فإذا اجتمعت رقية الزنا وداعيته ورائده فقد استكملت أسبابه .

وقد روي عن عمر بن عبد العزيز انه قال : " انه بلغني عن الثقات من حملة العلم أن حضور المعازف واستماع الاغاني واللهج بها ينبت النفاق في القلب كما ينبت العشب الماء " .

ولعمري لتوقي ذلك بترك حضور تلك المواطن أيسر على ذي الذهن من الثبوت على الايمان ما ما ينبت النفاق في قلبه ، وهو حين يفارقها لا يعتقد احتواء اذنيه على شيء مما ينتفع به .

فمن أحب النجاة غدا ، والمصاحبة لأئمة الهدى ، والسلامة من طريق الردى ، فعليه بكتاب الله فليعمل بما فيه ، وليتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته فلينظر ما كانوا عليه ، فلا يعدوه بقول ولا فعل ، وليجعل عبادته واجتهاده على سننهم ، وسلوكه في طريقهم ، وهمته في اللحاق بهم ، فان طريقهم هو الصراط المستقيم ، الذي علمنا الله سبحانه سؤاله ، وجعل صحة صلاتنا موقوفة على الدعاء به فقال سبحانه معلما لنا : { اهدنا الصراط المستقيم ، صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين } آمين .

فمن شك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان على الصراط المستقيم فقد مرق من الدين ، وخرج من جملة المسلمين ، ومن علم ذلك ، وصدق ورضي بالله رباً ، وبالإسلام ديناً ، وبمحمد نبيا ، وعلم أن الله تعالى قد أمرنا باتباع نبيه بقوله سبحانه : { واتبعوه لعلكم تهتدون } وغير ذلك من الآيات . وقول النبي صلى الله عليه وسلم : " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي ، عضوا عليها بالنواجذ ، وإياكم ومحدثات الأمور ، فإن كل محدة بدعة ، وكل بدعة ضلالة " وقوله عليه الصلاة والسلام : " خير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها " . فما باله يلتفت عن طريقه يميناً وشمالاً . ينصرف عنها حالاً فحالاً ويطلب الوصول إلى الله سبحانه من سواها ، ويبتغي رضاه فيما عداها .

أتراه يجد أهدى منها سبيلاً ، ويتبع خيراً من رسول الله صلى الله عليه وسلم دليلاً؟ كلا ، لن يجد سوى سبيل الله سبحانه إلا سبيل الشيطان ، ولن يصل من غيرها إلا إلى سخط الرحمن ، قال الله تعالى : { وان هذا صراطي مستقميا فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ، ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون } .

وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم انه خط خطا مستقيما فقال : " هذا سبيل الله " وخط من ورائه خطوطا فقال : " هذه سبل الشيطان ، على كل سبيل منها شيطان يدعوا اليه ، من أجابهم اليها قذفوه في النار " أو كما جاء الخبر .

فأخبر أن ما سوى سبيل الله هي سبل الشيطان ، من سلكها قذف في النار ، وسبيل الله التي مضى عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأولياؤه والسابقون الأولون ، واتبعهم فيها التابعون بإحسان الى يوم الدين ، { رضي الله عنهم ورضوا عنه ، أعد لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك الفوز العظيم } ، فمن سلكها سعد ، ومن تركها بعد .

وطريق رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته وأخلاقه وسيرته وما كان عليه في عبادته وأحواله مشهور بين أهل العلم ، ظاهر لمن أحب الاقتداء به واتباعه ، وسلوك منهجه ، والحق واضح لمن أراد الله هدايته وسلامته و { من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً } .

ثبتنا الله وإياكم على صراطه المستقيم ، وجعلنا وإياكم ممن يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم ، خالدين فيها أبداً ان الله عنده أجر عظيم .

فيا أيها الآدمي المسكين المخلوق لأمر عظيم ، الذي خُلقت من أجله الجحيم وجنات النعيم ، إذا أنت أصغيت إلى الملاهي بسمعك ، ونظرت إلى محارم الله ببصرك ، وأكلت الشبهات بفيك ، وأدخلتها إلى بطنك ، ورضيت لنفسك برقصك ونقصك ، وأذهبت أوقاتك العزيزة في هذه الاحوال الخسيسة ، وضيعت عمرك الذي ليست له قيمة ، في كسب هذه الخصال الذميمة ، وشغلت بدنك المخلوق للعبادة ، بما نهى الله عنه عباده ، وجلست مجالس البطالين ، وعملت أعمال الفاسقين والجاهلين ، فسوف تعلم إذا انكشف الغطاء ، ونزل القضاء ، ماذا يحل بك من الندم يوم ترى منازل السابقين ، وأجور العاملين ، وأنت مع المخلفين المفرطين ، معدود في جملة المبطلين الغافلين ، قد زلت بك القدم ، ونزل بك الالم ، واشتد بك الندم ، فيومئذ لا يُرحم من بكى ، ولا يُسمع من شكى ، ولا يقال من ندم ، ولا ينجو من عذاب الله إلا من رحم . .

أيقظنا الله وإياكم من سنة الغفلة ، واستعملنا وإياكم لما خلقنا له برحمته


تمت الفتيا
والحمد لله وحده ، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً
عدد زوار الموقع