لقد خلق الله عز وجل الثقلين
لحكمة واحدة، وهي أن يعبدوه وحده كما قال تعالى {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ
وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (56) سورة الذاريات أي إلا ليوحدوني
ويفردوني بالعبادة.
والعبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة، كالدعاء والاستغاثة والاستعاذة والذبح والنذر والسجود وغير ذلك من أنواعها.
ومن صرف شيئاً من العبادة لغير الله فقد جعله شريكاً لله تعالى، فإن كل ما أمر الله أن يصرف له فلا يجوز صرفه لغيره، فإن فعل فقد وقع في التنديد الذي هو أعظم الكبائر، فقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم أي الذنب أعظم؟ فقال : (أن تجعل لله نداً وهو خلقك) متفق عليه.
سواء كان هذا الشريك ملكاً أو نبياً أو ولياً أو شجراً أو حجراً أو كوكباً، لأن الله عز وجل يقول {وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا } (36) سورة النساء فقوله شيئاً نكرة في سياق النهي فتعم كل شيء، وقال تعالى {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} (18) سورة الجن وقوله (أحداً) نكرة في سياق النهي فتعم كل أحد سوى الله عز وجل.
وقد بعث النبي صلى الله عليه وسلم في أقوام مختلفي المشارب، متبايني الاعتقادات، منهم من يعبد الملائكة، ومنهم من يعبد الأنبياء، ومنهم من يعبد الأشجار والأحجار، ومنهم من يعبد الصالحين، فلم يفرق النبي صلى الله عليه وسلم بينهم بل حكم عليهم جميعاً بالكفر والشرك، واستحل بذلك دماءهم وأموالهم، وسبى نساءهم، فدل أن حكم الجميع واحد.
ولما كان الشرك أعظم الذنوب إذ هو الذنب الذي لا يغفر أبداً لمن لقي الله عليه من غير توبة كما قال تعالى {إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا } (48) سورة النساء {إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا } (116) سورة النساء وكما قال تعالى { إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} (72) سورة المائدة، كما أن توحيد الله في العبادة أعظم الواجبات فلذلك كان هو أول ما دعت إليه الرسل جميعاً كما قال تعالى (ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت) وحين بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذاً إلى اليمن أمره بأن يبدأ بدعوة الناس إلى التوحيد فقال (إنك تقدم على قوم أهل كتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله) الحديث رواه البخاري. وقال لعلي رضي الله عنه حين أرسله إلى خيبر (قاتلهم حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله) الحديث متفق عليه، ولهذه المكانة العالية للتوحيد، ولهذه الخطورة العظيمة للشرك فقد عني النبي صلى الله عليه وسلم ببيان التوحيد والشرك أعظم العناية، فإنه مكث في مكة ثلاث عشرة سنة عشر سنوات كلها في بيان التوحيد، وبيان ما يضاده، وثلاث فيها الأمر بالصلاة مع التوحيد.
ولما هاجر إلى المدينة نزلت الشرائع والفرائض، مع العناية التامة بالتوحيد، والتحذير مما يضاده حتى كان عليه الصلاة والسلام وهو في سياق الموت يحذر من اتخاذ قبره مسجداً، ويلعن اليهود والنصارى بسبب اتخاذ قبور أنبيائهم مساجد.
وهذا الدين الخاتم جاء بتقرير التوحيد، والنهي عما يضاده وجاء بسد الذرائع الموصلة إلى الشرك ما لم يأت مثله في الشرائع السابقة، وكان مما حذر منه الكتاب والسنة الغلو في الصالحين من ملائكة وأنبياء وعلماء وزهاد، وكذا الغلو في بعض الجمادات كالأشجار والأحجار وغيرها، لأن هذا الغلو هو مفتاح الشرك الأكبر، وبابه النافذ إليه، وبه ضل قوم نوح ومن بعدهم، وقد سبق في علم الله أن هذا واقع في هذه الأمة كما وقعت فيه الأمم من قبلها، فلذا كثر التحذير منه، ومع ذلك وقع فيه كثير من المنتسبين للإسلام في القديم والحديث.
درجات الغلو:
للغلو درجتان : الأولى غلو مخرج من الملة:
وهو ما بلغ بصاحبه إلى تسوية غير الله بالله فيما هو من خصائص الله كمن ينسب إلى بعض الخلق أنه يعلم الغيب، أو أنه على كل شيء قدير، أو أنه يتصرف في الكون بحياة أو موت أو نفع أو ضر استقلالاً بقدرته هو ومشيئته، وهذا يوجد عند كثير من الغلاة من الروافض والصوفية وأشباههم.
ومن صوره أيضاً صرف العبادة لغير الله عز وجل كدعاء الأولياء، والاستغاثة بهم، والذبح لهم، والنذر لهم، والطواف بقبورهم تقرباً إليهم. لأنها عبادات والعبادة لا يجوز صرفها لغير الله ومن صرفها لغير الله فقد أشرك والعياذ بالله.
وهذا وجد قديماً ولا يزال إلى يومنا هذا، ومن أمثلته الشنيعة ما ذكره حسين بن محمد النعمي أن امرأة كف بصرها فنادت وليها: أما الله فقد صنع ما ترى ولم يبق إلا حسبك.
وقال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن آل الشيخ : وحدثني سعد بن عبد الله بن سرور الهاشمي رحمه الله أن بعض المغاربة قدموا مصر يريدون الحج فذهبوا إلى الضريح المنسوب إلى الحسين رضي الله عنه بالقاهرة فاستقبلوا القبر وأحرموا ووقفوا وركعوا وسجدوا لصاحب القبر حتى أنكر عليهم سدنة المشهد وبعض الحاضرين فقالوا: هذا محبة في سيدنا الحسين".
وهكذا يوجد في يومنا هذا من يستغيث بالحسين والبدوي وعبد القادر. والله لقد كان مشركوا الجاهلية الأولى خيراً من هؤلاء وأخف شركاً وأحسن عقولاً فقد كانوا عند الشدائد لا يدعون إلا الله ولا يستغيثون بأحد إلا الله، كما قال الله تعالى عنهم {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} (65) سورة العنكبوت.
الدرجة الثانية: ما كان وسيلة إلى الشرك وذريعة إليه:
ومنه رفع قبور الأولياء، وبناء القباب و المساجد عليها، أو دفن الأولياء في المساجد، وشد الرحال إليهم. والتوسل إلى الله عز وجل بجاههم والحلف بهم مع الاعتقاد أن الحلف بهم دون الحلف بالله أما إن قام بقلب الحالف أن الحلف بغير الله كالحلف بالله أو أعظم فهذا شرك أكبر والله المستعان.
خطر الغلو في الصالحين:
الغلو في الصالحين هو سبب أول شرك وقع في بني آدم كما حصل للقوم الذين بعث فيهم نوح عليه الصلاة والسلام في الخبر المشهور، حيث غلوا في وَد، وسُواع، ويغوث، ويَعوْق، ونَسْر، وكانوا قوماً صالحين، فلما ماتوا صوروا لهم تماثيل حتى يتذكروهم فيعملوا مثل عملهم، ثم تقادم الزمان، ونسي العلم، ومات أولئك فجاء من بعدهم فأوحى لهم الشيطان أن اعبدوها من دون الله عز وجل فعبدوها من دون الله فوقع أول شرك في بني آدم فأرسل الله نوحاً عليه السلام فدعاهم إلى عبادة الله وحده، ودعاهم إلى الكفر بعبادة ما سواه ولبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً فأهلك الله عز وجل كفار قومه، ونجى نوحاً ومن آمن معه وما آمن معه إلا قليل، وقد ورثت العرب تلك الأصنام وبقيت فيهم حتى بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم فأهلكها الله على يديه صلوات الله وسلامه عليه.
ولخطورة الغلو في الصالحين وشدة الفتنة بهم جاء التحذير منه في الكتاب والسنة وفي كلام السلف في نصوص كثيرة ومنها:
1- عن ابن عباس رضي الله عنهما عن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم فإنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله) رواه البخاريوقوله: (لا تطروني) بضم أوله أي التاء والإطراء المدح بالباطل تقول أطريت فلانا مدحته فأفرطت في مدحه
2- وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رجلا قال: يا محمد، يا سيدنا، وابن سيدنا، وخيرنا وابن خيرنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أيها الناس عليكم بتقواكم ولا يستهوينكم الشيطان، أنا محمد بن عبد الله، عبد الله ورسوله والله ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عز وجل) رواه أحمد بإسناد صحيح على شرط مسلم
3- وعن عائشة رضي الله عنها أن أم حبيبة وأم سلمة رضي الله عنهما ذكرتا كنيسة رأينها بالحبشة فيها تصاوير فذكرتا للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: (إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك الصور فأولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة) متفق عليه
4- وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (قاتل الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد). رواه البخاري
5- وعن عائشة وعبد الله بن عباس رضي الله عنهما قالا: لما نُزِلَ برسول الله صلى الله عليه وسلم طفق يطرح خميصة له على وجهه فإذا اغتم بها كشفها عن وجهه فقال وهو كذلك: (لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر ما صنعوا) متفق عليه
6- وعن علي بن عمر عن أبيه عن علي بن الحسين أنه _ أي علي بن الحسين _ رأى رجلا يجيء إلى فرجة كانت عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيدخل فيها فيدعو فدعاه فقال ألا أحدثك بحديث سمعته من أبي عن جدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تتخذوا قبري عيداً ولا بيوتكم قبوراً وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث ما كنتم) رواه ابن أبي شيبة ، وحسنه السخاوي.
7- و عن نافع رحمه الله قال: بلغ عمر بن الخطاب أن أناسا يأتون الشجرة التي بويع تحتها قال فأمر بها فقطعت. رواه ابن أبي شيبة ، وصححه الألباني في فضائل الشام
8- وعن المعرور بن سويد قال: خرجنا مع عمر في حجة حجها فقرأ بنا في الفجر (ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل) و (لإيلاف قريش). فلما قضى حجه ورجع والناس يبتدرون فقال: ما هذا؟ فقالوا: مسجد صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: هكذا هلك أهل الكتاب اتخذوا آثار أنبيائهم بيعا من عرضت له منكم فيه الصلاة فليصل، ومن لم تعرض له منكم فيه الصلاة فلا يصل. رواه ابن أبي شيبة. وصححه شيخ الإسلام ابن تيمية.
9- وقال الإمام محمد بن وضاح (وكان مالك بن أنس وغيره من علماء المدينة يكرهون إتيان تلك المساجد وتلك الآثار للنبي صلى الله عليه وسلم ما عدا قباء وأُحداً ، قال ابن وضاح: وسمعتهم يذكرون أن سفيان الثوري دخل مسجد بيت المقدس فصلى فيه ولم يتبع تلك الآثار ولا الصلاة فيها، وكذلك فعل غيره أيضاً ممن يقتدى به وقدم وكيع أيضاً مسجد بيت المقدس فلم يعد فعل سفيان قال ابن وضاح فعليكم بالاتباع لأئمة الهدى المعروفين فقد قال بعض من مضى كم من أمر هو اليوم معروف عند كثير من الناس كان منكراً عند من مضى ومتحبب إليه بما يبغضه عليه ومتقرب إليه بما يبعده منه وكل بدعة عليها زينة وبهجة).
فمن تأمل هذه النصوص عرف أن الغلو في الأولياء والصالحين والأضرحة ليس من الدين في شيء، بل دين الله منه براء، ومحبة الصالحين إنما تكون بالاقتداء بهم في الخير لا بجعلهم أنداداً لله تعالى، ولا بأن يفعل بهم ما يكون وسيلة إلى الشرك الأكبر والعياذ بالله كما هو الحاصل اليوم في كثير من بلاد العالم الإسلامي.
ومما يبعث على الأسى زهد كثير من أهل العلم في الجامعات والمعاهد الدينية، والمشتغلين بالدعوة إلى الله، من الأفراد والجماعات في بيان حقيقة توحيد العبادة، وبيان ما يضادها، وتقصيرهم في تحذير الأمة من الغلو في الصالحين وأصحاب الأضرحة، في الوقت الذي يكثر فيه المفتونون بها.
إن على الدعاة إلى الله أن يترسموا خطى محمد صلى الله عليه وسلم والنبيين من قبله في الدعوة إلى الله فقد قص الله عنهم جميعاً أن أساس دعوتهم كانت الدعوة إلى توحيد الله وترك الإشراك به كما قال تعالى{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} (36) سورة النحل.
وكما قال سبحانه{وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} (25) سورة الأنبياء. وقصّ الله تعالى عن جملة من رسله أنهم دعوا أقوامهم فقال كل منهم { يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غيره}.
وأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يبين للناس حقيقة دعوته في قوله تعالى {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (108) سورة يوسف.
ونسأل الله أن يقيض لبلاد المسلمين التي ليس فيها من يدعو إلى التوحيد من أهل العلم من يقوم بهذا الواجب أحسن قيام وأتمه، وأن يؤيدهم بولاة عدل يعينونهم على نشر الحق ودحر الباطل كما نسأله أن يخلص بلاد المسلمين من مظاهر الشرك والوثنية إنه سميع مجيب
علي بن يحيى الحدادي