الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
فلا يزال الحقّ والباطل في صراع منذ خلق الله آدم عليه السلام وأسجد له الملائكة وأبى إبليس اللعين السجود له بحجّة أنّه خير منه كما أخبرنا الله تعالى بذلك في عدّة مواضع من كتابه العظيم.
وفي عصرنا هذا الذي كثُرت فيه الفرق والأحزاب وتمايزت آراؤها وتشتّتت لا يزال أهل الحقّ في صراع مع أهل الباطل المنافحين عن باطلهم بشتى الطُّرُق.
وإنّ من تلك الطُرُق الحديثة التي ما كان يعرفها سلفُنا الصالح ولم تلقَ عندهم رواجاً بدعة الموازنة بين الحسنات والسيئات في النّقد والردّ على المُخالفين.
هذه البدعة الخبيثة التي أحدثها في عصرنا شرذمة من النّاس يحسبون أنّهم على شيء وما ذلك إلا ليحموا رؤوسهم ورؤوس أئمّتهم ومنظّريهم وأشياخهم ومُرشديهم من أن يبترها سيف الحقّ.
فانظر على سبيل المثال ما ذكره الدكتور زيد بن عبد الكريم الزيد في ((ضوابط رئيسية في تقويم الجماعات الإسلامية)) : ((الضابط الخامس: العدل في النّقد، بذكر الحسنات والسيّئات ... فالعدل حينئذ يقتضي ذكر الحسنات والسيئات معاً. فليس من الإنصاف في شيء لمن ينصحُ جماعة من الجماعات الإسلامية، ومن ثمّ سائر الأمّة الإسلامية، أن يذكر الأخطاء والانحرافات والمساوئ فحسب، إنّ هذا كما هو مجاوز للعدل، فهو عرض مضلّل لحقيقة الجماعة ...)) ((القطبية هي الفتنة فاعرفوها ص 47، مجالس الهدى، الجزائر)).
ومثله ما قاله المدعو: أبو الفضل عبد السلام بن عبد الكريم كما في كتابه ((خلاصة الموقف السلفي من التصوّف ص 39 ط2 المكتبة الإسلامية)) بعد أن ذكر مخازي الصوفية: ...
الفقرة الثانية: هل بقي –بعد كلّ هذه المساوئ- حسنة يمكن أن نسجّلها في حقّ الصوفية ؟! والجواب: نعم، بل ثمّة حسنات وليس حسنة واحدة ...)) !!!
وقد تصدّى لهذه البدعة الخبيثة بالفضح والتعرية أئمّة العصر الذين عُرفوا بمُتابعة السُنّة والدعوة إليها والذبّ عنها قولا وعملاً واعتقاداً.
وعلى رأس هؤلاء الأئمّة شيخ المشايخ وحافظ العصر ريحانة الشام وحسنة الأيّام ناصر الدّين والسنّة العلامة المجدّد محمّد ناصر الدين الألباني رحمه الله تعالى. فقد سمّاها رحمه الله تعالى ((بدعة العصر)) !
ومن أولئك الأعلام الذين تصدّو لهذه البدعة الخبيثة والطريقة الحزبية المُنكرة حامل لواء الجرح والتعديل بشهادة الإمام الألباني ومجدّد علم الجرح والتعديل وبحقّ يحي بن معين عصره بشهادة العلامة محمّد بن عبد الوهّاب البنا ربيع السنّة وأهلها الشيخ ربيع بن هادي عمير المدخلي حفظه الله ومتّعه بالصحّة والعافية.
فقد صنّف الشيخ ربيع في الردّ على هذه البدعة كتابين عظيمين جاء فيهما بنوادر ودرر لا ينبغي لطالب العلم والحقّ أن تفوته.
وأسماء هذين الكتابين كالتالي:
* ((منهج أهل السنّة والجماعة في نقد الرجال والكتب والطوائف))
* ((المحجّة البيضاء في حماية السنّة الغرّاء من زلاّت أهل الأخطاء وزيغ أهل الأهواء)).
فمن أراد التوسّع في معرفة هذه البدعة وتفنيدها فعليه بالرجوع إليهما.
وفي هذا الموضوع الذي بين يديك أخي القارئ أحببتُ أن أفنّد إحدى مقالات أهل البدع القائلين بالموازنة والتي طالما ردّدوها في خطبهم ومحاضراتهم وفي مؤلفاتهم وهي ((إنّ فلاناً قد مات ساجداً)) أو (( فلاناً قد مات في ساحة الوغى)) فكيف تتكلّمون فيه ؟؟!!
وقديماً سمعتُ هذه الكلمات من شيخ القصّاص عبد الحميد كشك رحمه الله وعفا عنه في حقّ محمّد الأودن وسيّد قطب. ثمّ قيلت فيه –أي كشك- بعد وفاته !
وغيره يقولها في حقّ عبد الله عزّام رحمه الله وغفر له وغيره.
ولا يخفى عليك أخي القارئ الكريم ما في هذه العبارات من الاغترار بكثرت العبادة أو حسن الخاتمة في الظّاهر على حساب شرطي قبول الأعمال وهما: الإخلاص لله تعالى والمُتابعة لرسوله صلى الله عليه وسلّم.
وإلا فقد وصف رسول الله صلى الله عليه وسلّم الخوارج بأنّهم يقرؤون القرآن وأنّ الصحابة يحقرون صلاتهم إلى صلاتهم وقراءتهم إلى قراءتهم فهل شفع لهم ذلك عند رسول الله صلى الله عليه وسلّم ؟!
كلا، بل سمّاهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم كلاب النّار !!
قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما واصفا ما رآه من أمر الخوارج (تلبيس ابليس 104 مكتبة الصفا ط1):
... فدخلت على قوم لم أر قط أشد منهم اجتهادا، جباههم قرحة من السجود و أياديهم كأنّها ثفن الإبل، وعليهم قمصٌ مرحضة مشمرين مسهمة وجوههم من السهر.
وعن جندب الأزدي قال لما عدلنا إلى الخوارج ونحن مع علي بن أبي طالب كرم الله وجهه (هكذا بالأصل والأولى ترك هذه العبارة ولإكتفاء بالترضي عليه كغيره من باقي الصحابة) قال فانتهينا إلى معسكرهم فإذا لهم دوي كدوي النحل من قراءة القرآن (نفس المصدر 105)
وقال عنهم الشهرستاني في ((الملل والنّحل)) (1/130 المكتبة التوفيقية): ((وكانوا يومئذ في اثنى عشر ألف رجل أهل صلاة وصيام)).
وذكر عن الخارجي عروة بن أديّة فقال: ((وعروة بن أذينة نجا بعد ذلك من حرب النهران وبقي إلى أيام معاوية ثم أتى إلى زياد بن أبيه ومعه مولى له فسأله زياد عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما فقال فيهما خيراً،
وسأله عن عثمان فقال: كنت أوالي عثمان على أحواله في خلافته ست سنين ثم تبرأت منه بعد ذلك للأحداث التي أحدثها وشهد عليه بالكفر !
وسأله عن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه فقال: كنت أتولاه إلى أن حكم الحكمين ثم تبرأت منه بعد ذلك وشهد عليه بالكفر !
وسأله عن معاوية فسبه سباً قبيحاً [وكذلك صنع سيّد قطب] ثم سأله عن نفسه فقال: أولك لريبة وآخرك لدعوة وأنت فيما بينهما عاص ربك فأمر زياد بضرب عنقه.
ثم دعا مولاه فقال له: صف لي أمره واصدقن فقال: أأطنب أم أختصر ؟
فقال: بل اختصر.
فقال: ما أتيته بطعام في نهار قط، ولا فرشتُ له فراشاً بليل قط.
هذه معاملته واجتهاده وذلك خبثه واعتقاده.)) (الملل والنّحل 1/132-133)
وهذا يعني أنّ عروة هذا كان يصوم الدّهر ويقوم الدّهر !!
ومع ذلك قال عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ( انظر مسلم 2/750 و أحمد 4/382 و ابن أبي عاصم 905 ): يخرج في هذه الأمّة قومٌ تحقرون صلاتكم مع صلاتهم، فيقرؤون القرآن لا يجاوز حلوقهم يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية.
وقال فيهم مع ما فيهم من عبادة وزهد: شر الخلق أو من أشر الخلق، أو شر الخلق والخليقة!
وسمّاهم كلاب النّار!
فلا تغرنّك المظاهر ولا يغرنّك لحن القول وزخرفه وسجعه وفصاحته بل ولا يغرنّك شدّة التديّن وحتى البكاء في الصلاة فقد كان الخوارج ولا يزالون من أشد النّاس تدينا ومن أكثرهم عبادة لله.
فالعبرة أخي في الله في مدى موافقة العمل للأثر وليست العبرة في كثرته ولهذا قال الله تعالى ((هو الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيُّكم أحسنُ عملاً)) ولم يقل أكثر عملاً وهذا ضابط مهم جدا وهو ثاني ركني تقبل الأعمال بعد الإخلاص فافهم هذا واعقله وتمسك به وعُضّ عليه بنواجدك تنجو بإذن الله تعالى.
واعتبر بما أخرجه سعيد بن منصور في سننه (2546) بسند صحيح أنّ حذيفة بن اليمان رضي الله عنه سأل أبا موسى الأشعري رضي الله عنه: ((أرأيت لو أنّ رجلا خرج بسيفه يبتغي وجه الله فضَرَبَ فقُتلَ: كان يدخل الجنّة ؟ فقال له أبو موسى: نعم ! فقال حذيفة: لا ! ولكن إذا خرج بسيفه يبتغي به وجه الله، ثمّ أصاب أمر الله فقُتل دخل الجنّة)).
قال الشيخ عبد المالك رمضاني حفظه الله: ((ومعنى قوله: ((ثمّ أصاب أمر الله)) أصاب السنّة، أي كان جهادُهُ بحقّ.
ويوضّحه قولُ ابن مسعود رضي الله عنه كما في ((البدع والنّهي عنها)) لابن وضّاح (81): ((على سنّة ضَرب أم على بدعة ؟! قال الحسن: فإذا بالقوم قد ضربوا بأسيافهم على البدع !!)) ، وفي رواية عبد الرزّاق (5/267) عن أبي عبيدة بن حذيفة قال: ((جاء رجل إلى أبي موسى الأشعري وحذيفةُ عندهُ، فقال: أرأيتَ رجلاً أخذ سيفَهُ فقاتل به حتى قُتل: أله الجنّة ؟ قال الأشعري: نعم ! قال: فقال حذيفة: استَفهم الرجلَ وأفهمهُ ! قال: كيف قُلتَ ؟ فأعاد عليه مثل قوله الأوّل، فقال له أبو موسى مثل قوله الأوّل، فقال حُذيفةُ:أيضاً: استَفهم الرجلَ وأفهمهُ ! قال: كيف قُلتَ ؟ فأعاد عليه مثل قوله، فقال: ما عندي إلا هذا، فقال حُذيفةُ: لَيَدخُلَنَّ النّار من يفعلُ هذا كذا وكذا، ولكن من ضرب بسيفه في سبيل الله يُصيبُ الحقَّ فلهُ الجنّة، فقال أبو موسى: صَدَقَ).
قال الشيخ عبد المالك: تأمّل هذا الأثر العظيم وما تحته من فقه ! فإنّهُ يبيّنُ لك الميزان الشرعي الذي يزن يه المسلم الفقيه الصادقُ أعمال العباد، ألا وهو النّظرُ في كلّ عمل بعين الإخلاص لله، وعين المتابعة لرسوله صلى الله عليه وسلّم)) اهت ((تمييز ذوي الفطن بين شرف الجهاد وسرف الفتن، ص 30-31 منار السبيل))
ولو رُحنا نُدافعُ عن كلّ من مات في ساحة القتال الذي يراهُ هو جهادا في سبيل الله وحرّمنا الخوض في أخطائه وكشفها وتحذير المسلمين منها للزمنا السُكوت عن الخوارج الأول الذين خرجوا على عليّ رضي الله عنه ومن تبعهم من أذنابهم في كلّ عصر !!
فانظر يا هداك الله إلى ما ذكره الإمام ابن كثير رحمه الله في ((البداية و النهاية)) (10 / 588): ((قال أبو أيوب: وطعنت رجلا من الخوارج بالرمح فأنفذته من ظهره، و قلت له: أبشر – يا عدو الله – بالنار، فقال: ستعلم أيّنا أولى بها صِلِيا !!)، وانظرها في ((تاريخ الطبري)) (3 / 122
بل انظر يا هداك الله إلى ما أوردهُ ابن سعد في ((الطبقات الكبرى)) (3 / 39-40) من قصة عبد الرحمن بن ملجم الخارجي الذي قتل عليّا – رضي الله عنه – حيثُ ذكر ((أن عبد الله بن جعفر قطع يديه ورجليه فلم يجزع ولم يتكلم ! فكحّل عينيه بمسمار محمّى فلم يجزع ! و جعل يقول: إنك لتكحّل عيني عمِّك بمُلمُول مضٍّ، و جعل يقول: ((اقرأ باسم ربك الذي خلق (1) خلق الإنسان من علق))، حتى أتى على آخر السورة كلّها وإن عينيه لتسيلان، ثم أمر به فعولج عن لسانه ليقطعه فجزَع، فقيل له: قطعنا يديك ورجليك وسملنا عينيك – يا عدو الله – فلم تجزع، فلما صرنا إلى لسانك جزعت !؟
فقال: ما ذاك مني من جزع، إلا أني أكره أن أكون في الدنيا فُوَاقاً لا أذكر الله )) !!!
و الفُواق هو الزمن الذي بين فتح يدك و قبضها على الضَّرْع، كما في ((القاموس المحيط)) للفيروزآبادي مادة فوق.
ومعناه أن هذا الشقيُّ المجرم الذي قتل عليّا – رضي الله عنه – جزع من أن تمر عليه اللحظة القصيرة و لا يذكر فيها الله تعالى !!
فهل لنا من سبيل أن نقول: ((كفّوا عن ابن ملجم فقد مات ولسانه رطبٌ من ذكر الله)) ؟؟!!
أسألُ الله تعالى أن يُصلحنا ويُصلح بنا من يشاء من عباده إنّه تعالى سميع مجيب وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.