إرشاد العقّال إلى المعنى الصحيح للأبدال
مقدّمة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول
الله أمّا بعد:
فقد استوطنت عقائد شيطانية ضالة مضلّة
في عقول وقلوب كثير من المنتسبين إلى الإسلام حتى أخرجت كثيراً منهم عن الإسلام وسلبتهم
اسم الإيمان، ومن هذه العقائد الشيطانية التعلّق بما يسمّى بالأبدال والأقطاب
والأوتاد والنّجباء وغيرها من الأسماء التي ما أنزل الله بها من سلطان!!
فإن أكثر الصوفية بل كلّهم وكثير من العوام المتأثّرين
بهم يعتقدون أنّ الأبدال والأقطاب وعلى رأسهم القطب الغوث يتصرفون في الكون بالإحياء
والإماتة والرزق والضر والنفع وأن مجلس أوليائهم - أو ما يسمّى بديوان الصالحين- تعرض
عليه شئون العالم حتى نسب بعضهم لربّ العزّة أنّه قال: الملك ملكي وصرّفتُ فيه البدوي !! وهذا من الشرك الذي ما كان يخطر
على بال أبي جهل وإخوانه؛ لأنهم لم يكونوا بوقاحة هؤلاء وفجورهم كما قال في ((قرّة عيون الموحّدين)).
فبفعل هذه العقائد الشيطانية التي حيكت بمكر ودهاء وتُقُبّلت بحمق وغباء
استطاع الشيطان الرجيم أن يصرف قلوب معظم الصوفية وكثير من العوام عن التوجّه إلى الله
سبحانه والتضرّع إليه وسؤاله والاستغاثة به وطلب قضاء الحاجات منه سبحانه وحده لا شريك
له.
فكم من المنتسبين إلى الإسلام من تراهُ عند عتبات أضرحة من يُنسبون إلى
الصلاح من الأموات يتضرّعون إليهم ويسألونهم حوائجهم بلهجة مليئة بالتذلّل والانكسار
والخشوع والافتقار ممّا لا تجد عشر معشار ذلك في بيوت الله التي ((أذن الله أن تُرفعَ ويذكر فيها اسمّه)).
قال الإمام الرئيس عبد الحميد بن باديس
رحمه الله: ((فانظر إلى حالتنا معشر المسلمين الجزائريين وغير الجزائريين، تجد السواد
الأعظم من عامّتنا غارقاً في هذا الضلال، فتراهم يدعون من يعتقدون فيهم الصلاح من الأحياء
والأموات يسألون حوائجهم من دفع الضرّ، وجلب النّفع، وتيسير الرزق، وإعطاء النّسل،
وإنزال الغيث وغير ذلك ممّا يسألون ويذهبون إلى الأضرحة التي شيّدت عليها القباب، أو
ظلمت بها المساجد، فيدعون من فيها ويدقون قبورهم وينذرون لهم ويستثيرون حميّتهم بأنّهم
خدّامهم وأتباعهم فكيف يتركونهم وقد يهددونهم بترك الزيارة وحبس النّذور، وتراهم هنالك
في ذلّ وخشوع وتوجّه قد لا يكون في صلاة من يصلّي منهم، فأعمالهم هذه من دعائهم وتوجّههم
كلّها عبادة لأولئك المدعوين وإن لم يعتقدوها عبادة، إذ العبارة باعتبار الشرع لا باعتبارهم،
فيا حسرتنا على أنفسنا كيف لبسنا الدّين لباساً مقلوباً حتى أصبحنا في هذه الحالة السيّئة
من الضلال.)) (مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير ص158)
وما وصلنا إلى ما وصلنا إليه من الضياع والانحطاط والتعلّق بغير
الله تعالى ورجاء غيره سبحانه إلا بفعل مثل هذه العقائد الضالّة المبنية على تقديس
الرجال واعتقاد العصمة فيهم وفي أفعالهم وأقوالهم، حتى وصل الأمر إلى اعتقاد المنكر
معروفاً والمعروف منكراً !!
فكم من النّصوص الصوفية
المأثورة عن مشايخ الضلال تنصُّ على عدم مؤاخذة الشيخ الصوفي بما يفعله من منكر ظاهر
جليّ لأنّ لما يفعله حقيقة وباطناً لا يدركهما العوام أو أهل الغيب !!
فلو رجعتَ إلى بيتكَ يوماً فرأيت
شيخك يركبُ امرأتكَ على سريرك،
فلا تعترض فتنطرد ! فإنّ شيخك أراد امتحانك فخيّلَ لك ما رأيتَ أو لعلّ الشيطان أوهمك
ذلك لتعترض على حضرة شيخك فتكون من الخاسرين !!
فكم قرأنا في تراجم كثير من الصوفية من كان يشرب المسكر علناً
!
ومن كان يبيع الحشيش عند باب الأزهر !!
ومن كان يسرقُ !!
ومن كان يترك الصلاة ولا يصوم رمضان !!
ومن كان يتعمّد إخراج الريح بحضرة النّاس وإسماعهم صوت ضراطه
!!
بل ومن كان يبيتُ في
بيوت البغاء ودور الدعارة !
ومن كان يواقع البهائم
!
ومن كان يخطبُ على المنبر
عرياناً والنّاسُ ينظرون !
ومن كان يؤدّبُ غلمانه
بضربهم بإحليله !!
ومن كان يُجامعُ أهلهُ أمام الملأ !! وربّما شاركهُ فيها
غيرُهُ !!
بل ومن كان يُنكحُ كما
تُنكحُ المرأة ويُعاشرُ كالنّساء والعياذ بالله تعالى !!!
كلّ هذه الجرائم ترتكبُ أمام أعين النّاس وتحت أنظارهم ولا منكر
عليهم والحجّة في ذلك كلّه أنّ هذا المجرم -أقصد الولي الصوفي- من أهل الحقيقة ومن
أهل الله ومن المجذوبين ومن الأقطاب وغيرها من الخزعبلات، وأنّ ما صدر منه كرامة من
الكرامات !!
والمؤسف في الأمر أن تقرأ هذا الكلام -وزيادة- في كُتب طبقات
الصوفية وتقرأ تحته مباشرة ((رضي الله عنه وأرضاه))
!!؟؟
فياليت شعري إذا كان مثل هذا الصنف من الشواذ والمنحرفين والمخرّفين
والمتحللين من كلّ خلق حميد رضي الله عنهم فلعنة الله على من ؟!
وأنا وإن كنتُ أُثبتُ كرامات الأولياء كما ثبت ذلك في الكتاب
والسنّة وكما تواتر بذلك النّقل عن كثير من السلف والخلف فأنا أفرّقُ بين كرامات الأولياء
المتّقين وخرافات الصوفية الكذّابين وأحوال الشياطين والدجّالين.
وليس هذا موضعُ البسط في بيان الفرق بين هذه وتلك، وأحيل القارئ
الكريم على كتاب ((الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان))
لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وشرحه للعلامة الشيخ صالح آل الشيخ حفظه الله لمزيد
بيان.
سبب الكتابة في
هذا الموضوع:
ولما كان لفظ الأبدال قد ورد في بعض الأحاديث الضعيفة والموضوعة
([1]) وجرى ذكرهم
على لسان بعض الأئمّة من السلف والخلف ممّن رأى أنّ لأحاديث الأبدال أصلاً لكثرة المتكلّمين بهم، ولمّا
كان أكثرُ النّاس لا يفرّقُون بين الصحيح والضعيف أحببتُ أن أوضّح -على عجالة- للعوامّ وأشباههم من أصحاب
العمائم من شيوخ الطرق الصوفية المقصود من لفظ (الأبدال) الذي ورد ذكره في بعض كتب
أصول السنّة ونقل ذكره عن بعض الأئمّة حتى يتّضح الفرق بين مقصود الأئمّة الأبرار وبين
مقصود الصوفية الأشرار.
وقد أفردتُ في هذا الموضوع لفظ (الأبدال) دون غيره من الألفاظ
والألقاب كالغوث والقطب والنجباء والأوتاد لعدم تكلّم السلف وأئمّة الدّين بها وإنّما
هي ألقاب باطلة من اختراع وابتداع عبّاد القبور من الصوفية ومن شايعهم من أهل الغلوّ
في الصالحين وليس فيها معنى صحيح يُبحثُ عنه أويُتكلّفُ في بيانه.
فأقول:
إنّ الأبدال
كما يعتقد كثيرٌ من الصوفية عبّاد القبور هم جماعة من النّاس أصحاب قوى خارقة للعادة
بحيث تمكّنهم هذه القوى من التصرّف في الكون بالإحياء والإماتة والغنى والفقر والعافية
والمرض وغيرها ممّا شاركوا فيه الله تعالى من خصائص الربوبية وصفات الجلال ونعوت الكمال
!!
فنتج عن هذا
الاعتقاد الفاسد اعتقاد أنّ الله تعالى يحفظ نظام الكون بهؤلاء الأشخاص وأنّ النّاس
يُسقون ويُغاثون بشفاعة هؤلاء الأشخاص وبالتوسّل بذواتهم كما صرّحت بذلك دائرة المعارف
الإسلامية قائلة (العدد 2 ص142): ((الأبدال إحدى المراتب في
الترتيب الطبقي للأولياء عند الصوفية، لا يعرفهم عامة الناس – أهل الغيب – وهم يشاركون
بما لديهم من اقتدار له أثر في حفظ نظام الكون))
!!! وزعم الدكتور حسن الشرقاوي في معجم ألفاظ الصوفية (ص22-25) أنّ ((مقام
الأبدال مقام عال، إذ بتوسلهم وشفاعتهم يستنـزل المطر ويجلب النصر على العدو
وتتقى النكبات العامة)) !!
فصل
مع تعريف المنّاوي للأبدال
وقد عرّفهم الصوفي عبد الرؤوف المنّاوي بقوله (التعاريف ص29-30):
((الأبدال جمع بدل وهم طائفة من الأولياء. قال أبو
البقاء كأنهم أرادوا أنهم أبدال الأنبياء وخلفاؤهم)).
إلى هنا يكون التعريف
مقبولاً شرعاً وعقلاً، فإذا قيل إنّ لفظ ((الأبدال))
الوارد على لسان بعض السلف يُقصدُ به العلماء ورثة الأنبياء وعلى رأسهم الصحابة والتابعون
والتابعين لهم بإحسان وأئمّة الإسلام المعروفين المشهورين الذين استنارت الدنيا بأقوالهم
وأعمالهم ... فهذا ممّا نعتقده ونقول به.
مثاله: قال
الإمام البخاري في فروة بن مجاهد: ((كانوا لا يشكّون
أنّه من الأبدال)) وقال مكحول البيروتي عن داود بن جميل: ((ما كانوا يشكون أنه من الأبدال)) وقال قتادة: ((أرجو أن يكون الحسن منهم)) أي الأبدال، والحسن هو البصري
الإمام المعروف.
فالمقصود بالأبدال ههنا هم أهل العلم وأهل الحديث والفقه والمعرفة
بالتّفسير أصحاب العقيدة السنّية السلفية الزكية أهل التقوى والورع والخوف من الله
تعالى فهؤلاء هم أولياء الله حقّاً الذين لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا
وكانوا يتّقون... فقد عنون الإمام الخطيب البغدادي رحمه الله تعالى
في كتابه (شرف أصحاب الحديث ص 8): ((من قال إن الأبدال
والأولياء أصحاب الحديث)) ثم ساق قول صالح بن محمد الرازي، ويزيد بن هارون،
وسفيان الثوري، وأحمد بن حنبل في هذا المعنى، أي أنّ أهل الحديث هم أولياء الله وهم
الأبدال ...
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في خاتمة العقيدة الواسطية:
((لكن لما أخبر النبي صلى الله عليه وسلّم أنّ أمّته
ستفترق إلى ثلاث وسبعين فرقة؛ كلها في النار إلا واحدة، وهي الجماعة، وفي حديث عنه
أنّه قال : ((هم من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي))؛
صار المتمسكون بالإسلام المحض الخالص عن الشوب
هم أهل السنة والجماعة، وفيهم الصديقون والشهداء والصالحون، ومنهم أعلام الهدى ومصابيح
الدجى أولو المناقب المأثورة والفضائل المذكورة، وفيهم
الأبدال، وفيهم أئمة الدين، وهم الطائفة المنصورة الذين قال فيهم النبي صلى
الله عليه وسلّم: ((لا تزال طائفة
من أمتي على الحق منصورة، لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم، حتى تقوم الساعة))،
نسأل الله أن يجعلنا منهم، ولا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا)) ... وقال في المقدّمة:
((فهذا اعتقاد الفرقة الناجية المنصورة إلى قيام الساعة
أهل السنة والجماعة)) اهـ .
فدلّ هذا الكلام منه رحمه الله على أنّ من لم يعتقد ما في الواسطية
من عقائد فليس من الأبدال كائناً من كان. ودلّ أيضاً أنّ الأبدال الذين أثبعهم
بعض السلف هم من أهل السنّة السلفيين لا من غيرهم.
فخرج من وصف الأبدال كلّ صوفي على وجه الأرض !! لأنّه ما
من صوفي إلا وهو يخالف العقيدة الواسطية وما فيها من تقريرات سنية لاعتقاد الفرقة الناجية
المرضية.
وكذا لا يصحٌُّ إطلاق وصف الأبدال
على كلّ مبتدع مخالف لاعتقاد السلف أصحاب الحديث رحمهم الله تعالى سواء في مسمّى الإيمان
وحقيقته وكونه قولٌ باللسان وعقد بالجنان وعمل بالجوارح والأركان وأنّه يزيد بالطاعة
وينقص بالمعصية وأنّ أهله يتفاضلون فيه وليسوا على درجة واحدة.
أو ما يتعلّق بذات الله تعالى
من إثبات ما أثبته الله لنفسه من الأسماء الحسنى والصفات العليا كما يليق بجلاله سبحانه
وتنزيهه عمّا نزّه نفسه عنه من غير تعطيل.
أو فيما يتعلّق بتوحيد التوجّه والطلّب وهو المسمّى بتوحيد الألوهية أو
العبادة ونفي الشريك عنه سبحانه في الدعاء والرغبة والخشية والإنابة والنّذر والصوم
والصلاة والحجّ وسائر العبادات القلبية أو الفعلية.
وكذا الإيمان بالقدر خيره وشرّه
وأنّ الله تعالى كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة وأنّ
ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن وأنّ الله خالق العباد وأفعالهم ويسّر أهل السعادة
لليسرى ويسّر أهل الشقاوة للعُسرى.
وكذا ما يتعلّق بالموقف من الصحابة
رضوان الله عليهم وطاعة ولاة الأمور وعدم شقّ عصا الطاعة وتفريق الجماعة وغيرها من
مسائل الاعتقاد المبثوثة في الواسطية وشروحها وهي منهج الأئمّة الأربعة وعلى رأسهم
الإمام أحمد إمام أهل السنّة ولذا قيل لعبد القادر الجيلاني –وهو من المعظّمين عند
الصوفية-: ((هل كان من الأولياء من ليس على اعتقاد الإمام
أحمد بن حنبل ؟ فقال: ما كان ولن يكون)) ...
فالأبدال الذين ورد ذكرهم على لسان بعض السلف هم أهل السنّة
والجماعة السلفيين حقاً لا ادّعاءً وهم المنتهجين لطريقة السلف رضوان الله عليهم في
العقيدة والعمل والدّعوة والأخلاق وبهم نُسقى وبهم ينصُرنا الله على أعدائنا أي: بدعائهم وإخلاصهم وحسن توجههم إلى الله تعالى كما
قال عليه الصلاة والسلام: ((ابغوني الضعفاء فإنما ترزقون وتنصرون
بضعفائكم)) (الصحيحة 779) وقال: ((هل تنصرون
إلا بضعفائكم بدعوتهم وإخلاصهم)) (صحيح
الجامع 7034) وليس
بذواتهم كما يعتقد الجهّال من الصوفية ومن شايعهم من أهل البدع والضلال.
فنحنُ نتبرّكُ بدعاء علمائنا وأهل التقوى فينا وتضرّعهم إلى
الله تعالى بدعائهم كما ثبت عن عمر رضي الله عنه حين تبرّك وتوسّل بدعاء العبّاس بن
عبد المطّلب رضي الله عنه واستسقائه بدعائه لا بذاته.
فالتبرّك بالذوات غير ذات رسول الله صلى الله عليه وسلّم ممنوع
غير مشروع بل هو منكر من الفعل ومن رواسب الجاهلية ووسيلة إلى الشرك الذي بعث الله
الرسل لأجل إزالته ومحوه من قلوب العباد.
إذاً، هذه الألقاب إذا
صدرت من هؤلاء الأئمّة فلا شكّ في حمل كلامهم على هذا المراد، فمن أثبت أحاديث الأبدال
من الأئمّة فلا شكّ أنّه يعتقدُ فيهم ما ذُكرَ آنفاً لا ما يعتقده كثيرٌ من النّاس
من أنّ الأبدال أشخاصٌ لهم خوارق أو أنّهم يتصرّفون في الكون ويعلمون الغيب كما هو
مدوّن في كتب الصوفية وطبقاتها. قال سماحة الشيخ العلامة محمد بن إبراهيم رحمه الله
تعالى في (الفتاوى1/258): ((أحاديث الأبدال فيها ضعف؛
ولكن -والله أعلم- هم أئمة
الدين الذين لا يضرهم من خذلهم والذين يذبون عن الدين ويكون جمعاً بين الأخبار)).
وأمّا أبدال الصوفية وعبّاد القبور وكثيرٌ من العوام الجهلة
فيقول المنّاوي في تعريفه لهم : ((... وهم عند القوم سبعة لا يزيدون ولا ينقصون)) !!
ونحنُ نقول بل لا يعلم عددهم إلا الذي فطرهم فإنّ رسول الله
صلى الله عليه وسلّم يقول في الحديث المشهور: ((لا
تزال طائفة من أمّتي على الحقّ ... )) ويقول أيضاً: ((إنّ الله يبعث لهذه الأمّة ...)) كما صحّ عن رسول
الله صلى الله عليه وسلّم.
فأولياء الله الصالحون لا تخلوا منهم الأرض إلى قيام الساعة
ولا يعلم عددهم إلا الله تعالى وكلّ مؤمن تقي فهو ولي لله وتزداد ولايته كلما زادت
تقواه والعكس صحيح.
ثمّ قال المنّاوي: ((يحفظ الله
بهم الأقاليم السبعة لكل بلد إقليم فيه ولايته منهم واحد على قدم الخليل وله الإقليم
الأول (!) والثاني على قدم الكليم والثالث على قدم هارون والرابع على قدم إدريس والخامس
على قدم يوسف والسادس على قدم عيسى والسابع على قدم آدم على ترتيب الأقاليم...))
فهذا الكلام ضلال وتكلّف وخرافة ولم يثبت في شيء من حديث
رسول الله صلى الله عليه وسلّم ولا من كلام السلف رضوان الله عليهم فكان خرافة
صوفية بلا شكّ وبلا ريب.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى (زيارة القبور والاستنجاد
بالمقبور ص63-64): ((وكذلك عني بالغوث ما يقوله بعضهم: من أن في الأرض
ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً، يسمونهم (النجباء)،
فينتقي منهم سبعون هم (النقباء)،
ومنهم أربعون هم (الأبدال)،
ومنهم سبعة هم (الأقطاب)، ومنهم أربعة هم (الأوتاد)،
ومنهم واحد هو (الغوث)، وأنّه مقيم بمكة، وأنّ أهل
الأرض إذا نابهم نائبة في رزقهم ونصرهم فزعوا إلى الثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً،
وأولئك يفزعون إلى السبعين، والسبعون إلى الأربعين والأربعون إلى السبعة، والسبعة
إلى الأربعة، والأربعة إلى الواحد. وبعضهم قد يزيد في هذا وينقص في الأعداد
والأسماء والمراتب؛ فإنّ لهم فيها مقالات متعددة حتى يقول بعضهم: إنه ينزل من
السماء على الكعبة ورقة خضراء باسم غوث الوقت، واسم خضره على قول من يقول منهم:
إن الخضر هو مرتبة، وإن لكل زمان خضرًا، فإنّ لهم في ذلك قولين وهذا كله
باطل لا أصل له في كتاب الله ولا سنة رسوله، ولا قاله أحد من سلف الأمّة ولا
أئمتها، ولا من المشايخ الكبار المتقدمين الذين يصلحون للاقتداء بهم. ) اهـ
وقال أيضاً:
(
وأما الأسماء الدائرة على ألسنة كثير من النُّسّاك والعامّة مثل الغوث الذي يكون
بمكة, والأوتاد الأربعة, والأقطاب السبعة, والأبدال الأربعين, والنجباء
الثلاثمائة, فهذه الأسماء ليست موجودة في كتاب
الله, ولا هي أيضا مأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد صحيح ولا ضعيف محتمل,
إلا لفظ الأبدال فقد روي فيهم حديث شامي منقطع
الإسناد عن علي بن أبي طالب مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم
أنه قال: ((إن فيهم – يعني أهل الشام – الأبدال
أربعين رجلا , كلما مات رجل أبدله الله مكانه رجلا)) . ولا توجد هذه الأسماء في كلام السلف كما هي على هذه الترتيب
.... )) اهـ
انظر
مجموعة الرسائل والمسائل للإمام ابن تيمية (ج1/ ص 57 و 60 ط بيروت 1983 م , كذلك مجموعة فتاوى ابن تيمية ج11 ص 433
, 434 , 439) والنقل عن التصوّف المنشأ والمصادر لإحسان إلهي ظهير رحمه الله
وقال العلامة الشيخ صالح آل الشيخ حفظه الله في
التعليقات الحسان على كتاب الفرقان لشيخ الإسلام: ((وكذا كل حديث
يروى عن النبي صلى الله عليه وسلّم في عدة الأولياء والأبدال والنقباء والنجباء والأوتاد
والأقطاب مثل أربعة أو سبعة أو انثي عشر أو أربعين أو سبعين أو ثلاثمائة أو ثلاثمائة
وثلاثة عشر، أو القطب الواحد، فليس في ذلك شيء صحيح
عن النبي ، ولم ينطق السلف
بشيء من هذه الألفاظ إلا بلفظ الأبدال، وروى فيهم حديث أنهم أربعون
رجلا وأنهم بالشام وهو في المسند من حديث علي كرم الله وجهه[2]
وهو حديث منقطع ليس بثابت ومعلوم أن
عليا ومن معه من الصحابة كانوا أفضل من معاوية ومن معه بالشام، فلا يكون أفضل الناس
في عسكر معاوية دون عسكر علي)). اهـ
والملاحظ أنّه يوجد اختلاف كبير جداً بين الصوفية أنفسهم في
تحديد عدد الأبدال وتفصيلات طبقاتهم ممّا يصدقُ عليه قول الله تعالى: ((ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً)).
ثمّ يواصل المنّاوي تعريفه فيقول: ((... وهم عارفون بما أودع الله في الكواكب السيارة من الأسرار والحركات
والمنازل وغيرها ...)) فهؤلاء الأبدال منجّمون على حسب تعريف المنّاوي
!!
فإنّ المنجّمين هم من يعتقدون في النّجوم والكواكب ويقولون بتأثّر
الأحوال السفلية –يعني على الأرض- بتحرّك الأجرام العلوية –يعني الكواكب والنّجوم-
ففي فتح المجيد (ص316): ((قال الخطابي:
علم النجوم المنهي عنه هو ما يدعيه أهل التنجيم من علم الكوائن والحوادث التي ستقع
في مستقبل الزمان، كأوقات هبوب الرياح ومجيء المطر، وتغير الأسعار; وما في معناها من
الأمور التي يزعمون أنها تدرك معرفتها بمسير الكواكب في مجاريها، واجتماعها وافتراقها،
يدّعون أن لها تأثيرا في السفليات، وهذا منهم تحكم على الغيب، وتعاط لعلم قد استأثر
الله به، ولا يعلم الغيب سواه)).
وأمّا عن أسرار النّجوم فقد قال قتادة رحمه الله تعالى: ((إنما
جعل الله هذه النجوم لثلاث خصال: جعلها زينة للسماء، وجعلها يهتدى بها، وجعلها رجوما
للشياطين. فمن تعاطى فيها غير ذلك فقد قال برأيه، وأخطأ حظه وأضاع نصيبه; وتكلف ما
لا علم له به، وإن ناسا جهلة بأمر الله قد أحدثوا في هذه النجوم كهانة: من أعرس بنجم
كذا وكذا، كان كذا وكذا، ومن سافر بنجم كذا وكذا، كان كذا وكذا. ولعمري ما من نجم إلا
يولد به الأحمر والأسود، والطويل والقصير، والحسن والدميم، وما علم هذه النجوم وهذا
الدابة وهذا الطائر بشيء من هذا الغيب، ولو أن أحدا علم الغيب لعلمه آدم الذي خلقه
الله بيده، وأسجد له ملائكته وعلمه أسماء كل شيء)) (فتح
المجيد ص317).
قال العلامة محمّد حامد
الفقي رحمه الله تعالى تعليقاً على كلام قتادة الآنف: ((في
قرة العيون: وقول قتادة -رحمه الله تعالى- يدل
على أن علم التنجيم هذا قد حدث في عصره، فأوجب له إنكاره على من اعتقده وتعلق به، هذا
العلم مما ينافي التوحيد ويوقع في الشرك؛ لأنه ينسب الحوادث إلى غير من أحدثها،
وهو الله سبحانه بمشيئته وإرادته كما قال تعالى: ((هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض)). وقال:
((قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله وما
يشعرون أيان يبعثون)) )).
فأنت ترى أنّ الأبدال عند هؤلاء الجهّال منجّمون وكهنة.
أمّا أهل العلم والتقوى
الذين سمّاهم بعض السلف أبدلاً فهم عارفون بالله تعالى بحيث وحّدوه في ربوبيته وفي
ألوهيته وفي أسمائه وصفاته فلم يشركوا به سبحانه معه أحداً وهم عارفون بمقاصد الشريعة
وبالفقه والتفسير والحديث ويفرّقون بين ما صحّ منه وما لم يصحَّ فشتّان بين علمائنا
وبين أبدال الصوفية !!
ثمّ يواصل المنّاوي تعريفه للأبدال فيقول: ((...ولهم من الأسماء أسماء وكل واحد بحسب ما يعطيه حقيقة ذلك الاسم
الإلهي من الشمول والإحاطة)) فما المقصود بهذا الكلام ؟! نعوذ بالله من
هذا الضلال وهذا الغلوّ في الصالحين.
وأمّا أولياء الله الصالحون الذين وصفهم بعض السلف بالأبدال
فليس لهم من الأسماء إلا ما سمّاهم به آباؤهم وليس فيهم من الخصال الخلقية ما ليس في
سائر البشر وليس لهم اطّلاع على الغيب ولا تحكّم في الكون ولا في أقدار الخلائق بل
هم بشرٌ عاديون يصيبهم ما يصيبُ البشر من بلاء ومرض وبرد وحرارة ونعاس وسهو وفرح وغضب
وحزن وجوع وعطش وغيرها من الخصال البشرية، ولكنّهم أقوامٌ عرفوا الله تعالى فقدروه
حقّ قدره وآمنوا به وبرسوله واتّبعوا سبيله وحفظوا سنّته وعملوا بها وعلّموها فحفظ
الله بهم الملّة والشريعة من تلبيس الملبسين وتأويل الجاهلين وانتحال المبطلين.
فأبدالنا أهل العلم
والفقه في دين الله تعالى وأهل التقوى والعمل الصالح المبني على الإخلاص لله تعالى
والمتابعة لرسوله صلى الله عليه وسلّم وعلى رأس هؤلاء أئمّة الجرح والتّعديل الذين
حفظ الله بهم الدين وصانه من التحريف اللفظي والمعنوي.
خاتمة:
فمما سبق بيانه اتّضحَ –إن شاء الله تعالى – أنّ ما يُسمّى بالأبدال
الأربعين أو الثلاثين أو السبعة أسطورة خيالة وحكاية خرافية نسجتها الأوهام وخاط خيوطها
الشيطان ليصرف العباد عن عبادة الرحمن إلى عبادة أشباههم من بني الإنسان.
وهذا كان دأب الشيطان منذ القديم فقد كانت أوّل بدايات الشرك
في قوم نوح عليه السلام عن طريق التعلّق بالصالحين. قال في تيسير العزيز الحميد (ص254):
((فإنه –أي التعلّق بالصالحين- أصل الشرك قديمًا وحديثًا
لقرب الشرك بالصالحين من النفوس فإن الشيطان يظهره في قالب المحبة والتعظيم)).
وبان بحول الله تعالى أنّ ما ورد على لسان بعض السلف من التكلّم بلفظ
الأبدال إنّما أرادوا به أهل العلم والتقوى من أصحاب الحديث وأئمّة الجرح والتعديل
حماة الدين والشريعة الغرّاء لا كما يطلقه الصوفية الأشرار على شرار الخلق من الشواذ
والمنحرفين والزنادقة والمعتوهين واقرأ على سبيل المثال سيرة
((إبراهيم العريان)) و((عبد القادر السبكي)) و((علي
وحيش)) و((حسن أبو علي)) و((أحمد البدوي)) في ((الطبقات
الكبرى)) للشعراني و((جامع كرامات الأولياء))
للنّبهاني وغيرها من الكتب التي تطفحُ بالثناء على شذّاذ الأفاق والمجّان والمخرّفين
وعدّهم من الأبدال وأولياء الله الصالحين.
هذا والله تعالى أعلم وصل الله على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه وسلّم
تسليماً كثيراً.
أخوكم الغريب
24/12/1434
الموافق لـ
28/10/2013
[1] قال العلامة الإمام ابن
قيّم الجوزية رحمه الله تعالى في (المنار
المنيف ص 136): ((ومن ذلك أحاديث الأبدال
والأقطاب والأغواث والنقباء والنجباء والأوتاد كلها باطلة على رسول الله صلى
الله عليه وسلم. وأقرب ما فيها ((لا تسبوا أهل الشام فإن فيهم البدلاء
كلما مات رجل منهم أبدل الله مكانه رجلا آخر)). ذكره أحمد ولا يصح أيضا فإنه منقطع.)) اهـ
وقال شيخ الإسلام
ابن تيمية رحمه الله في المنهاج (ج1/ص94): ((لفظ الأبدال تكلم به بعض
السلف ويروى فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث ضعيف)) اهـ